الخميس , أبريل 18 2024
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / جديد الموقع / قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية”، تأليف شلدون واتس (1/3)، من إنجاز الأستاذ الحسن الغرايب.

قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية”، تأليف شلدون واتس (1/3)، من إنجاز الأستاذ الحسن الغرايب.

قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ. المرض والقوة والإمبريالية”

تأليف شلدون واتس(1/3)

د. الحسن الغرايب

 

في قراءتنا لكتاب صادر باللغة الإنجليزية سنه 1997عن دار يال للنشر الجامعي والمترجم في طبعة أولى سنة 2010 عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، نرى أن الضرورة التي أملتها وضعية الأوبئة بالعالم المتوسطي ثم بعد ذلك مناطق بعيدة عنه جعلت من تناول الموضوع تاريخيا وفي علاقته بالإمبريالية من الطروحات الجديدة. وقد آثرنا في كثير من الأحيان الرجوع للنص الأصلي لضبط ما لم تستطع الترجمة العربية القيام به، قراءة ممتعة.

عرفت كل المجتمعات جوائح ارتبطت لذاكرتها، واستطاع الإخباريون سواء من مؤرخين أو رحالة ضبط الفترة الزمنية التي حل بها الوباء وكذا تعقيدات التعامل معه، إضافة إلى مخلفاته وأثره على وضعية الأفراد. وفي هذا الإطار يدخل كتاب شلدون واتس الذي تناول الفترة الممتدة من القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين وبمجال كبير جدا يمتد من آسيا وأوروبا إلى غرب إفريقيا. ويعتبر الكتاب بحد ذاته إضافة نوعية في بابه لتناوله بعضا من الأوبئة التي اكتسحت كل العوالم وعلاقة هذا بالإمبريالية بتفشي أمراض لم تعرفها مجتمعات في تاريخها السابق على الاستعمار. وقد اعتبر انتشار الأوبئة نتيجة حتمية للهجرة (الرعاة على سبيل المثال لا الحصر) من جهة وكذا دور التجارة في ذلك وغيرها من المسببات المرتبطة بحركية الساكنة وعلاقاتها بمجالات بعيدة، ومن بين هذه الأمور ما وقع عام 1348 عندما نقا تجار من موانئ القرم على البحر الأسود إلى إيطاليا الطاعون الذي انتقل بدوره إلى إنجلترا مخترقا عدة مجالات أوروبية ولم تسلم منه حتى مجالات جنوب البحر المتوسط، وهو ما سرع في انهيار النمو الديموغرافي لكل هذه المجالات دون استثناء.

 نرى بعد هذه التوطئة القول إن الكتاب يلقي الضوء على العلاقة بين الأوبئة خاصة منها المستجدة على بيئتها وتلك المنقولة عبر عمليات التطويع القهري للساكنة استعمارا أولا وبعد ذلك تحوله إلى إمبريالية جارفة. والكتاب في طرحه لهذه القضايا ارتأى أن يقوم بوضع المسببات الخاصة لما عانته بعض الشعوب جراء الاستعمار خاصة ما تعلق منها بنشر أوبئة غريبة عن مجالاتها مما أدى إلى إبادة بعضها لكونها لم تكن لديها المناعة ضد أوبئة جوالة أو طارئة عليها، وقد عدد الكاتب سبعة من الأمراض التي أضحت أوبئة فيما بعد، لم تستطع هذه الشعوب مقاومتها بما لديها من معارف طبية محلية. كما أكد صاحب الكتاب أن الأنشطة الاقتصادية الجديدة على البيئة المحلية المرتبطة بمتطلبات الإمبريالية ومؤسساتها عجلت بإيجاد وسط ملائم لنشر أوبئتها عن طريق تدمير الوسط الطبيعي لهذه المجتمعات المحلية وجعله قابلا لاحتضان أمراض عابرة للقارات كما هي الشركات العملاقة. واعتبارا لكون الطبيعة تقاوم التغييرات الطارئة فإن عملية الإجهاز على مناعتها جاءت عبر تدمير مقومات هذه المقاومة من تغيير للمحيط الطبيعي وجعله قابلا لاستقبال زراعات هجينة وبديلة في نفس الوقت لما هو موجود محليا، ثم تحويل الضغط على الوسط الطبيعي بإنبات معامل ملوثة تستدعي يدا عاملة طيعة وتغيير نظام البيع والشراء السائد قبلا بنظام جديد يعتمد كلية على النقد بدل المقايضة. أدت هذه التغييرات الجديدة المحدثة استعماريا إلى تكثيف الهجرة نحو مناطق العمل الساحلية التي ساعدت نوعية الصناعات الجديدة على خلق مناخ جديد وقابل للتطور لكل الأمراض مما جعل الساكنة عرضة لأمراض لم تألفها في وسطها.

أمام ما أصاب المحيط الطبيعي للبلدان المُسْتَعْمَرة من سرعة في تدمير مناعته الطبيعية ظهر ما أسماه الاستعمار وبعده الإمبريالية بـ”طب المناطق الحارة” وهو في الأصل الطب الذي يمكن للرجل الأبيض من التأقلم مع محيط جديد عليه واستنزاف خيراته عبر الحضور الفعلي في هذه المجتمعات، كانت “التنمية” المفهوم السحري وجواز الاستغلال بدون منازع للإنسان والطبيعة وهوما عبر عنه شلدون واتس بكونها “قوة محركة أساسية للعالم الحديث المبكر قادرة على قبول تعدد الأشكال”(ص. 57).وأن الإخضاع الكلي للشعوب وما يترتب عنه من ذلك من جوائح خضع في مجمله لوكالات التنمية الأوروبية المحافظة على عملياتها باستمرار مُخْضِعَة ساكنة العالم لتأثيرها بصورة متزايدة، الشيء الذي جعل “من بين التبعات غير المقصودة “للتنمية” خلق شبكات المرض التي امتدت عبر العالم، مثل شبكة التجارة التي ظهرت أولا بواسطة البرتغاليين”(ص. 58). ويؤكد الكاتب بشكل وثوقي أن تغيير البنية السلالية للأمريكيتين عبر استجلاب آلاف الأفارقة للعمل في مناجم الذهب التي تم استكشافها في العالم الجديد وكذا العمل في الأراضي الشاسعة للقطن بأمريكا، كل هذا ساهم بعد توطيد الاتصال بالأوروبيين في تغيير التركيب الإثني للعالم الجديد عبر ما سماه “محرقة وباء الجدري”(ص. 59). انطلاقا من هذا المعطى فإن تهديد المرض للمجتمعات دفع بالسلطات إلى استشارة “الهيئة الطبية” وذلك بغية الحد من الانتشار السريع للوباء، وهذا ما دفع شلدون بتسميته “الموقف من المرض” أي التقعيد الرسمي للتكفل بالمرض والحد من انتشاره.

أملى هذا الموقف وضع استراتيجيات عنيفة تم التعامل بها أثناء الأوبئة من بينها الدفن السريع للموتى، غلق المؤسسات العامة بما فيها الأسواق والمنشآت وإقامة الحجر الصحي. إن شلدون في توصيفه لهذا التعامل مع الوباء، اعتبر إن الإجراءات الصارمة شكلت تهديدا قويا لعالم اعتاد نظاما مرتبطا بثقافة موروثة، الشيء الذي جعل من التجربة المعيشة للمرض أكثر منه بكثير.

   على مسار الفصول الستة التي تناولت المرض وطبيعته حدد شلدون تصوره المبني على وضع كل مرض وبائي ضمن مجموعتين ثقافيتين الأولى تنتمي لأوروبا والثانية من مجالات ثقافية مغايرة وذلك بصفة قصدية وهو اختيار من أجل المقارنة. لم تكن هذه الاختيارات اعتباطية بل من ورائها يكمن التعريف بقوة استجابة البشرية في هذين العالمين للطاعون على طول الفترة الممتدة من 1347 إلى 1844. ويرى المؤلف أن اختلاف الوفيات بنفس الوباء بين العالمين، الإسلامي ممثلا بسلطة المماليك بالقاهرة، والمسيحي الذي انخفضت به أعداد الموتى ابتداء من 1450، في حين استمر الطاعون بحصد أرواح الساكنة بالمشرق العربي الإسلامي ما بعد ذلك حتى سنة 1840، مسألة تثير التساؤل لأن الأسباب المؤدية لذلك لم تكن واضحة، وهو ما يجعل دراسة الخط الخاص بالوباء وسيره في مناطق العالم المسيحي تثير أكثر من تساؤل لكون نفس الطاعون لم يعد بقادر على تدمير الساكنة في عمر الإنجاب ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر.

     أدى انتشار الأوبئة إلى الرجوع في التعامل مع ذلك إلى بنية ثقافية لها جذورها في الإرث الخاص للشعوب الأوروبية، وهي إجراءات كفيلة بالحد من الدمار الشامل المُحْدَث بعد التعافي، وقد وجد كبار الملاك الوسيلة الوحيدة هي تطبيق شعار “اهرب مبكرا، اهرب بعيدا، وعُدْ متأخرا” (ص. 78) وهو رد فعل عاد من طبقات المجتمع السائدة. لكن هذا الإجراء فيه مخاطرة من فَقْدِ السلطة السياسية كما حصل بفلورنسا يوم 22 يوليو 1378 عندما احتشد العمال الفلورنسيون حول المدينة رافعين راية العصيان، غير أن قوة الطبقة البرجوازية الناهضة بدعم من جهازها القمعي عذبت وأعدمت هذه الجموع و”سنت عدة قوانين تمنع المواطنين من المغادرة بسبب القول بوجود الطاعون”(ص. 79)، وهكذا أصبح التخويف سياسة الطبقة السياسية المتحكمة في مدن أوروبا. ساهم الرهبان بقسط كبير في رفع عدد الموتى بتدخلهم المرتبط أصلا بالدعوات والقيام بالقداسات والمواكب التكفيرية التي تسهم في رفع البلاء مما زاد من قوته، لأن الاحتكاك الكبير بين مكونات هذه المواكب يحدث العدوى الجارفة. حدد شلدون الكيفية التي تعامل بها الفلاحون مع ساكنة المدن المصابة بالطواعين، وهي القذف بالحجارة حتى لا يغادرها الناس نحو الأرياف، وقد استعمل “هؤلاء الفلاحون قمة الأسلوب الصحيح لمقاومة الطاعون: تحديد حركة الناس، اعتمادا على تصرف انبثق من عالمهم الفكري الخاص”(ص. 88). وفي تتبعه لتطور المرض استعرض شلدون ذهنية الجموع في التعامل مع الطارئ من الأمراض الجارفة، وحدد نوعية العوالم الفكرية لطبقات المجتمع الأوروبي من الجوائح التي استطاعت بعد ذاك من قهر هذه الأمراض. أشار شلدون أن المقاومة الإيطالية للطاعون اعتمدت على التدقيق في انتقال البشر من مناطق الوباء إلى تلك الخالية منه والدفن الإجباري للموتى المصابين بحفر خاصة مع التخلص من متعلقاتهم وعزل المرضى في أماكن معدة لذلك، وقيام الوحدات المحلية بفرض الضرائب لتقديم الخدمات الطبية للناس الموجودين في العزل وأخيرا تقديم الدعم لمن انهارت حياتهم نتيجة لغلق الأسواق ولمن لا يملك مخزونا خاصا به. بقي دعم المرضى وغيرهم من مهام سلطة المدن الشيء الذي أكد “قناعة الصفوة بوجود علاقة ارتباط مباشرة بين الفقر والوباء”(ص. 97). وفي مقابل التشدد في التعامل مع الجوائح أورد شلدون أن المناطق الإسلامية خاصة مصر المملوكية لم تغير من نمط سلوكها تجاه المرض خاصة “الفلاحين الذين كانوا دائما في قاع الهرم الاجتماعي وكذلك الحال بالنسبة للسماسرة أصحاب النفوذ الذين كان لهم سلطان على حياة الناس الآخرين”(ص. 108). ويزيد المؤلف أن ذهنية الساكنة سواء بمصر المملوكية أو قبلها بالجزيرة العربية ظلت مرتبطة بنوعية ثقافتها المفضية إلى كون المتوفى بالطاعون هو شهيد ومثواه الجنة (ص. 121). وقد أسهم الدين في عملية ضبط الساكنة وبقائها في مكانها دون اللجوء للبحث عن كبش فداء لمن كان سببا في الوباء. وعلى العكس من القارة الأوروبية فإن موتى الطاعون كانوا يعاملون بمصر كأي ميت ولم يتم النفور منهم بل أن علية القوم شاركوا في الجنازات والغسل والدفن بشكل عاد. لكن في الأرياف اعتبر الطاعون والأمراض الجارفة “عقاب من عمل الجن”(ص. 124). هذه النظرة للمرض وأخذ موقف منه لم تتم إلا بوصول محمد علي للسلطة وتصرف على ضوء بعض الأفكار مما سمعه من طلاب الطب العثمانيين مما خفف من وطأة العدوى عما كانت عليه في السابق. ويرى شلدون أن محمد علي اعترف “بصفته مستبدا مستنيرا بأن كل أفراد المجتمع، لكي يكونوا منتجين يجب توفير الرعاية الصحية الحديثة لهم”(ص. 129)، وعلى ضوء هذا التصور أنشأ نظاما صحيا قرويا مدعوما من السلطة وهو فريد من نوعه بالبحر المتوسط. التزم محمد علي بمفهوم النظام الذي عملت به فلورنسا وغيرها والتزم بتطبيق الحجر الصحي والعزل بالمستشفيات التي كانت آنذاك في المدن الكبرى، وبعد تفشي الطاعون سنة 1834 اعتمد نفس ما تم بجنوة من حبس ضحايا الطاعون وحرق متعلقاتهم وإقامة الحجر على كل أفراد الأسر الفقيرة مقابل ترحيل علية القوم أو من الفئات المتوسطة. استعملت القوة بشكل كبير في مواجهة المرض وتم قتل أرباب أسر كثيرة لعدم التبليغ عن إصابة أحد أفرادهم أو وفاته جراء المرض. لم يأت تطبيق مفهوم النظام بجديد في الحالة المصرية، إذ ترك محمد علي للوباء القيام بدورته مما أنهك اقتصاديات البلد وقلص من عدد الساكنة. كانت هذه النتيجة قاصمة ظهر البلد إذ أجبرت السلطة المصرية على السماح للبريطانيين بشراء القطن من المنتجين المحليين وألغي احتكار السلطة للقطن والتصرف فيه.

أسهم مفهوم النظام رغم قسوته الزائدة في وقف زحف الطاعون وخنق اقتصاد البلد في زمن أصبح فيه الاستعمار يتحول إلى إمبريالية. يمكن القول إن شلدون بمقاربته الغربية لطاعون الشرق إنما حمل تاريخ الشرق ما لم يحتمله خاصة في وضع لم يكن أبدا بقادر على نهج نفس مسار الحوادث بمجتمعات أوروبا لاختلاف التطور التاريخي ودور قوى الإنتاج في ذلك.

                                                                        يتبع 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .