الجمعة , أكتوبر 4 2024
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / جديد الموقع / قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية”، تأليف شلدون واتس (3/3)، من إنجاز الأستاذ الحسن الغرايب.

قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية”، تأليف شلدون واتس (3/3)، من إنجاز الأستاذ الحسن الغرايب.

قراءة في كتاب “الأوبة والتاريخ. المرض والقوة والإمبريالية”

تأليف شلدون واتس(3/3)

د. الحسن الغرايب

 

   إذا كانت الأمراض الكاسحة قد وسمت تاريخ البشرية بغض النظر عن الانتماءات العرقية والثقافية، فهل أسهمت الرأسمالية في ذلك أم أن ريع الأوبئة دَعَّم الرأسمال المتحكم في اقتصاديات كل المجتمعات خاصة تلك الرازحة تحت الإمبريالية؟

   أدى اكتشاف العالم الجديد وبداية التوطين المسلح للقادمين من القارة العجوز إلى خلق مناخ غير مألوف للساكنة الأصلية، وذلك بربط اقتصادياتها بعمالة طارئة على مجتمعاتها للنقص الحاصل في يد عاملة تتطلبها الصناعة التعدينية ف”كان الجذري وشركاؤه، العوامل المشتركة التي لا ترحم في خلق وتكوين مؤسسة العالم الجديد لعبودية الأفارقة السود”(ص. 240). بوصول الإسبان إلى أمريكا الوسطى تحول مظهر هذه المجتمعات لمعاناتها من صدمة الجذري الوبائي رغم كون مجتمع الأزتيك وعاصمته “تنوشيتيلان المدعمة بنظام معقد للإمداد بالطعام يقوم على الزراعة المروية وعلى تجارة محلية وبعيدة المسافات…وأسواقها الكبرى وحشودها التي لا تعد ولا تحصى…كلها تتجمع معا لتخلق مكانا متحضرا ربما لم يضاهه أي مكان في أوروبا إلا مدينة روما قبل ذلك بألف وخمسمائة عام عندما أعاد أغسطس بناءها”(ص. 244-245). لم يعد هذا العالم المتمدن وفق خط حضاري بقادر على مقاومة النهب المصحوب ب “التحكم في العمل وطلب الجزية”(ص. 245)، بل صاحبته عمليات إبادة ممنهجة للساكنة. تعرضت الشعوب الأصلية لاستئصال أسهم فيه المرض الوافد مع المستعمرين وجشع الباحثين عن الثروة، وقد أورد شلدون أن “الاندحار المتسارع بالفعل بسبب الأنفلونزا والمذابح الإسبانية، أثبت وصول الجذري للتاينو في ديسمبر 1518، أنه أزمتهم قبل الأخيرة. وبالفعل بعام 1550، انقرض شعب التاينو عند نقطة التحول التي ميزت عدم قدرتهم وعدم رغبتهم في الإنجاب”(ص. 246). المرض والحرب دور أساسي في تدمير شعوب أمريكا الوسطى، ولم تترك عملية الإبادة فرصة لنجاة شعب بنى حضارته الخاصة منذ سنين، بل أن الجذري أصبح دوريا واتبع “شبكات التجارة ليخترق أراضي الأمريكيين الأصليين…وربما تحرك في اتجاه الجنوب نزولا إلى الساحل، وصل إلى ريو بلات في الأرجنتين…ثم اتبع الطرق الأمريكية الأصلية المبنية بالحجارة في اتجاه الشمال إلى الأنديز العليا، قلب أراضي الأنكا”(ص. 247-248). كان لهذا الانتشار السريع تأثير على السكان الأصليين وفاقم الوضع في كل هذه المناطق، الحروب التي أشعلتها القوات الإسبانية في كل المناطق المعروفة بالذهب والفضة. لم يكن الإسبان وحدهم من أسهم في كل هذه المآسي بل حتى الإنجليز في شمال القارة والبرتغاليين في البرازيل، عملوا على جعل الساكنة تنقرض معتبرين أن هذا أمر الله الذي جعل الساكنة الأصلية تترك أراضيها لشعوب جديدة (ص. 252).

  ربط شلدون عمليات الإبادة بالمرض الجارف للجذري بوصول أعداد كبيرة من المغامرين التواقين للثروة مصحوبين بكهنة وقساوسة لينهوا أمر الديانات القديمة ب”العالم الجديد”.

 ففي كل فصول المُؤَلَّف التي كانت ممتعة، لم نر سوى الفظاعة المتبقية من معاملة وحشية اعتبرت “القاعدة العامة بين الإسبان أن يكونوا متوحشين؛ …ولكن متوحشون بصورة غير عادية من أجل أن تمنع المعاملة القاسية والمريرة الهنود من التجرؤ على التفكير أنهم بشر”(ص. 257). هكذا يورد شلدون شهادات عن نوعية المعاملات في عالم جديد تحكم فيه أمران: أولهما، رغبة من أجل وضع اليد على اقتصاد قادر دفع عجلة نهضة أوروبا، لاسيما بعد التطور الذي عرفته التجارة عالميا وبداية إرساء أسس التخصص بين الرأسماليات الناهضة، وثانيهما وهو ذو بعد ديني ويرتبط بوصايا العهد القديم المُؤَكِدة على عدم القتل، لكن ذلك لم يمنع كل المبشرين أن يضعوا السكان الأصليين “في بيئة من المؤكد أنها ستؤدي إلى موتهم بسبب الأمراض”(ص. 257). وارتباطا بهذا التصور، فإن الإبادة اعتبرت تطهيرا من الشيطان، وهو ما قَعَّدَ له كتاب “التاريخ الطبيعي” لأوفيدوEUVIDO باعتباره مصدرا أبرز كيفية تشكل إدراك الأوروبيين (المستعمرين) للعالم الجديد. ظلت هذه النظرة مساوقة للممارسات السلطوية غير القابلة للمراجعة خاصة ما تعلق منها باستخلاص الضرائب وإن اندثر “شعب بأكمله” شأن شعب المايا. وأمام فرار الناجين من الجذام لجأ الإسبان لإجبار السكان على العيش جماعيا بقرى تحت رحمتهم، وفي هذا يقول شلدون إن هذه التجمعات “كانت معسكرات موت منشأة لهذا الغرض”(ص. 271). إن عملية النبش في مصادر الحقبة الحديثة للعالم الجديد واستثمارها بهذا الشكل يجعل من الكتابة عن الأوبئة أمرا محفوفا بمخاطر عدة من بينها، الموقف من المرض بحد ذاته، والمسافة المعرفية الفاصلة بين الذات والموضوع وهو ما جعلنا نتابع بشغف الكتاب فصلا فصلا وكأنه شريط طويل لحياة شعوب الأرض الواقعة تحت نير الاستعمار وبعدها الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية بداية القرن العشرين.

 غير الاستعمار من الحياة الاجتماعية للشعوب التي رزحت تحت نير الطغيان وساوى في العبودية بين من كانت لهم مراتب اجتماعية عليا بمجتمعاتهم مع العامة منهم، وفي ذلك تغيير للخارطة الاجتماعية لمجتمعات في طور التحلل. وأمام هذا الانهيار المريع تخلى من اعتنق المسيحية عن ذلك وعاد إلى ثقافته ليحتمي بها من الموت القادم مع المستعمرين الجدد وبذلك حررت بعض الشعوب نفسها من الكآبة والخوف من مرض اعتبر علاجه بالحجر الذي يزيد معدلات الإصابة والموت الحتمي شأن ما أورده شلدون عن بقايا الزابوتيك بالمكسيك (ص. 273). إن التغيير الذي عرفته هذه المجتمعات صاحبه محو لثقافتها عبر تطبيق ما أصدرته محاكم التفتيش بإسبانيا، خاصة بعد أن كانت تكتب بعض المراسلات بلغة الناهوتال “وبهذا المحو الإجباري للغة أمريكا الوسطى، فقد تم دق مسمار كبير في نعش الثقافة الأصلية”(ص. 274). بهذه الطريقة سواء لدى الإسبان أو البرتغاليين وغيرهم ممن جعلوا من أراضي أمريكا مجالا حيويا لتطلعات الرأسمال، “كان القتلة الرئيسيون الجنود البرتغاليون والجذري”(ص. 275)، كل هذا من أجل أرض للزراعة والتحكم في منجم للذهب أو الفضة، علما أن الموت بالوباء وبالقتل بالأسلحة الغريبة عن الساكنة، سرع من الانهيار الديموغرافي بهذه المجالات مما استدعى نقل عبيد من قارة أخرى وإدخالهم في دورة اقتصادية مربحة. لم يكن هذا المصدر إلا أنجولا وبعض المناطق الأخرى المكونة لإمبراطورية البرتغال التجارية.

   بالرجوع إلى تاريخ النهب وتاريخ المرض، ودور الاستعمار في ذلك، لم يرد عند شلدون أي معنى خاص للثقافة الأصلية مقابل تلك العابرة للقارات المعتمدة على العنف، والزاحفة باتجاه محو كل من يقف أمام تطور الرأسمال وممثليه من التجار المدعومين من الرهبان والمبشرين. لقد تحول المعبد لمكان لاحتجاز الساكنة وأصبح الكاهن الآمر في مجتمع أصيب بوباء لا شفاء منه.

  هل غيرت هذه الأوبئة مسارات الحضارة الأصلية؟ وهل التطور العام لأنماط الإنتاج سرعه وجود وباء جارف؟

   لم يتناول شلدون هذه القضايا ذات الطبيعة الإشكالية، لاسيما في منحاها النظري لكونه اقتصر في طروحاته القوية المشفوعة بأرشيف فريد مما تركه “الْمُتَحَضِّر” عن غزواته الهادفة إدخال جموع الساكنة الأصلية في مسار حضارة غريبة عن منطق التطور العام لهذه المجتمعات المحلية، مع استبعاد مسألة إعادة التحقيب التاريخي المرتبط أساسا بتطور المجتمع وقواه المنتجة وبنية نمطه الإنتاجي، علما أن هذه الأوبئة وإن غيرت من صورة المجتمعات التي اجتاحتها، فإنها لم تستطع أن تعيد تشكيل أنماط إنتاج هذه المجتمعات، بما فيها بنيتها الثقافية الحصينة، وبقي التحقيب التاريخي كما يستشف من ثنايا القراءة الفاحصة للكتاب بعيدا عن التناول، لكونه يخضع لسيرورة وحركية قوى الإنتاج دون غيرهما.

    ظل شلدون أمينا لطروحاته في هذا الصدد، وبقي لصيقا لإظهار الموقف من المرض الطارئ من المهام الأساسية في تشكيل تصورات هذه المجتمعات من المرض، ومن حامليه من الغرباء عن مجتمعاتهم. أدت العلاقة الوطيدة بين الدين وممثليه من القساوسة والرهبان والمبشرين، والتجار وداعميهم من الجند التواقين للإثراء على حساب تدمير شعوب بأكملها، وهي ما يشكل نقطة تحول كبرى في مسارات التطور بهذه المجتمعات.

  عرى شلدون في مؤلفه المتميز حضارة قامت على تدمير كل الثقافات بما فيها تلك البعيدة عن حدودها، وفي ذلك إعلان عن سقوط مدو لما نادت به عبر شعار التقدم المرادف لعمليات بربرية باسم المال تارة والدين تارة أخري. وقد وجدت الأخلاق سبيلها في هذا، لتلطيف “همجية” مُسْتَعْمِرة لمجالات أخرى قوامها الاستغلال حتى الموت. لم يكن الجذري وحده القاتل بل ساهم الزهري بقسطه في تدمير ما تبقى من إنسانية لدى الشعوب المستعمرة، واعتبارا لكون من يقوم بنشر “الرذيلة” هو نفسه المتبرئ منها فقد اعتبر “داء الزهري الجديد هو عقاب من الرب بسبب لعنة الكفر، ولم يؤكد أية علاقة بين المرض والعاهرات”(ص. 330). ومن المعلوم كما أورد شلدون أن الصراع على مستوى الأخلاق بين ممثلي المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي تعدى ما هو متعارف عليه في الصراع إلى اتهام “بابا روما وعاهرة كبرى مصابة بالزهري…وتم تمثيل الدين القديم على أنه بغيض وفاسد وغير أخلاقي”(ص. 333) وأن المسؤولين عن دور الدعارة لم يكونوا إلا أولئك الذين يقومون بترأس القداسات بالكنيسة، شأن إدارة دور الدعارة المجازة بواسطة مكتب إدارة الملكية التابع لأسقف وينشستر سنة 1550(ص. 334). أصبح الزهري مرضا عابرا للقارات علما أن أوروبا هي مهده الأول ولم تسلم منه أية دولة بل تعدى كل الحدود ليصل إلى أبعد نقطة في المجالات التابعة استعماريا. كل الأمراض العابرة للطبقات كان من ورائها الاستعمار بما فيها الكوليرا التي تم النظر إليها “باعتبارها مرض الاحتلال الجوهري… كان ينظر إلى الكوليرا والموقف منها (…)كسندان تضرب عليه الطبقة الوسطى الناشئة أعداءها الاجتماعيين”(ص. 61). هي النظرة المعالجة في الكتاب والتي وضحها شلدون بشكل راق معتمدا في ذلك على أدبيات تاريخية وكنسية لتقريب الموقف من الأوبئة الجارفة مؤكدا على أن الرأسمالية في كل فظائعها كانت تتغيى إرساء تنمية على نمطها. فهل فعلا تحقق ذلك وهل استطاع الطب وقف الجوائح أم أن هذه الأوبئة هي المحددة للعلاقات بين مختلف الأجناس والأنظمة الإيديولوجية كونيا؟

 هي مجموعة من الأسئلة موجهة للباحثين في ظل ظهور أوبئة جديدة نتيجة تطور علمي غير متحكم فيه جماهيريا، لكن بعده الاقتصادي سيجعل من أسواق المال مجالا للصراع بين كبريات الشركات المتحكمة في الصحة والشفاء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .