دردشة على طاولة العشاء:
كلاوديو طوريش، الفنان المتمرد والأركيولوجي العاشق للحرية
أجرى الحوار: الأستاذ عثمان المنصوري
سنحت لي مؤخرا فرصة زيارة مدينة مرتولا الواقعة جنوب البرتغال بالقرب من الحدود مع إسبانيا، وذلك في إطار لقاء علمي مشترك مغربي برتغالي، في نهاية شهر أكتوبر، وكانت مناسبة للالتقاء بصديق تعرفت عليه في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وهو كلاوديو طوريش.
وقد حرصت منذ أول يوم على أن ألتقط معه بعض الصور التذكارية، وأستدرجه للحديث عن ذكرياته القديمة، وجوانب شخصيته التي ينأى عن الحديث عنها تواضعا، منسجما مع نمط حياته المبني على البساطة والخالي من التصنع والتكلف. وأمام إلحاحي عليه وتأكيدي له بأن بعض الجوانب من سيرة حياته ستحظى بدون شك باهتمام القراء عموما، والمغاربة على وجه الخصوص، وعدني بحوار يتطرق فيه إلى هذه الجوانب ويجيب عن تساؤلاتي. ومع كثرة الانشغالات المرتبطة ببرنامج الندوة، لم أتمكن من إجراء هذا الحوار إلا في الليلة الأخيرة من مقامنا بهذه المدينة، بمناسبة اجتماعنا جميعا لتناول وجبة العشاء.
لم يكن حوارا خاصا، ولا استجوابا، ولكنه كان في الواقع دردشة بدأتها زوجته السيدة مانويلا باروش، وانضم كلاوديو إليها، وقد تقمصت دور الصحافي الذي يسأل ويدون الإجابات، لمعرفتي بأن ما تختزنه ذاكرة الرجل، جديرة بنشرها والتعريف بها.
عند وصولنا إلى المطعم، اتفقنا على الجلوس بالقرب من بعضنا البعض لاستغلال الفرصة في إجراء الحوار المطلوب، وجلست السيدة مانويلا إلى جواري، ولم يكن سهلا علي افتتاح الحديث معه، فهو بطبيعته رجل مرح، منفتح، شيق الحديث، والجميع يبادلونه الحديث بحيث صعب علي الشروع في محاورته.
وفي انتظار تفرغه لي، تبادلت مع السيدة أحاديث المجاملة، فوجدتها متحدثة لبقة، أنيقة في مظهرها وفي طريقة كلامها، لا يبدو عليها أنها في منتصف عقدها الثامن، وتجد صعوبة في الحديث وسط الجلبة الناتجة عن اختلاط الأصوات، وخاصة الضحكات التي تصدرها طرائف ونكت أمير المرح المؤرخ المغربي مولاي علي الواحدي.
سألتني هل تريد حقا إجراء استجواب مع زوجي؟ فأجبتها نعم، ولكنه مشغول. ثم بادرتها طالبا منها أن تحدثني عن زوجها، في انتظار أن يتفرغ لي. فأبدت تحفظها قائلة إنني لا أستطيع أن أكون محايدة، فأنا زوجته وله مكانة كبيرة في قلبي، بعد عشرة أكثر من خمسين سنة. فقلت لها لا عليك، فنحن المؤرخون نستطيع بحكم مهنتنا أن نميز بين الشهادات الحقيقية والشهادات الكاذبة، فنحن نحلل وثائق قديمة تعود لقرون، ولن يصعب علينا ضبط شهادات معاصرة، برواية من أصحابها. وشجعتها على الحديث، لأن حديثها ربما يعطينا صورة مكملة لما سيرويه لنا، ولأنها شاركته مسيرته منذ البداية، فالقصة قصتهما معا. سألتني من أين أبدأ؟، فقلت لها من البداية، وبدون مقدمات أو تعقيدات، فقصدنا هو تعريف قراء موقعنا التاريخي بشخصية متميزة في بلدها، فاستجابت لطلبي، وهكذا حصلت على استجوابين في لحظة واحدة.
السيدة مانويلا: أنا وزوجي من مدينة بورطو في شمال البرتغال، وكنا في سنة 1962 طالبين في الجامعة، ومتزوجين، كنت طالبة في الهندسة المعمارية، وهو في كلية الفنون الجميلة، وفي تلك السنة، أخذت حكومة سالازار تجند الشباب للذهاب إلى المستعمرات ومواجهة حركات التحرر الإفريقية. وكان لنا موقف مناهض لحرب المستعمرات، ورفضنا السفر والتجنيد، ولذلك وخوفا من التعرض للسجن والمضايقات، قررنا الهروب من البرتغال. كنا امرأتين مع زوجينا ثم خمسة أشخاص آخرين من بينهم طفل، وكنت حاملا في شهري الأول أو الثاني، فقررنا الإعداد للهرب، وأعددنا مركبا لا يتجاوز الخمسة أمتار طولا، به مقصورة صغيرة بالداخل، مغطاة، وتتسع لشخصين، بينما باقي المركب مكشوف للهواء الطلق. جمعنا ما يكفينا من المؤونة والزاد والماء، وكنا نعتقد أن السفر في البحر إلى المغرب مسألة سهلة، وأخذنا معنا بوصلة، وخريطة مدرسية عادية، وكنا نعول على أحد مرافقينا في قيادة السفينة بحكم أنه كان يتوفر على رخصة ملاحة، لكن تبين فيما بعد، أنه لم يكن بحارا، ملما بشؤون الملاحة وإنما عاملا حمالا في الميناء. ومع ذلك فقد أبلى البلاء الحسن وتمكن من قيادة المركب بشكل جيد.
اتجهنا جنوبا، مبتعدين شيئا ما عن الشاطئ خوفا من ترصد الشرطة البرتغالية لنا، ولم يكن لنا إلمام كبير بالملاحة في هذه المنطقة الصعبة، وكان المركب يبحر أحيانا كثيرة عكس التيارات التي تدفعنا إلى داخل المحيط، وازداد الأمر صعوبة بعد تجاوزنا لموقع لشبونة بقليل، حيث تعرضنا لعاصفة قوية، ونفذ البنزين، ولم يبق لنا من الزاد إلا قطع قليلة من البسكوت والقليل من الماء، وكان علينا أن نتناوب على الاحتماء من لفح الشمس وقساوة الطبيعة في المقصورة الوحيدة التي لا تتسع لأكثر من شخصين.
كان كلاوديو يتابعنا بنظراته بين الفينة والأخرى، وفي لحظة من اللحظات تدخل مازحا، وسائلا ماذا تفعلين؟ هل تريدين سرقة الاستجواب مني؟ ثم أردف قائلا، إنها المرة الأولى التي تتحدث فيها عن الموضوع، منذ ما يزيد على نصف قرن، وأنا مسرور لذلك، فهي بطبعها لا تتكلم كثيرا. ولكنها تحتفظ أكثر مني بالتفاصيل الدقيقة. وفعلا، لاحظت أنها تأخذ كل وقتها للتفكير، وتتحدث بتأن، وتستغرق أحيانا في التأمل والتذكر.
استطردت قائلة: في هذه اللحظات العصيبة، مر لحسن الحظ مركب من مراكب الصيد بقربنا، وتعاطف طاقمه معنا، وأسعفونا بقليل من البنزين، وبالماء والشوكولاطة والبيسكوت، فتمكنا من مواصلة الرحلة . إلا أننا كنا نجهل طبيعة الملاحة في المضيق.
أخذت مني ورقة، وبدأت ترسم عليها وتشرح صعوبة الملاحة في المضيق، قائلة: تلتقي في المضيق التيارات الناتجة عن تدفق مياه المحيط والتقائها بمياه البحر المتوسط، مما يجعل دخوله صعبا، ويدفع المراكب إلى خارج المضيق باتجاه المحيط الأطلسي، وإذا لم تكن عارفا بحركة المياه والتيارات، ولم تكن لديك مراكب مجهزة، فلا يمكنك عبور المضيق.
كان التيار قويا، ودفعنا إلى المحيط باتجاه أمريكا، ولم يعد لدينا ما يكفي من البنزين والزاد، وتأزمت أوضاعنا من جديد، وكادت إحدى ناقلات النفط أن تصدمنا فتجنبناها، وبعدها مرت بجوارنا ناقلة أخرى، فأخذنا نلوح لها، ونستعمل كل ما لدينا لإثارة انتباه طاقمها، من أوان وملابس حمراء، وأخيرا انتبهت لوجودنا، وأسعفونا، فألقوا إلينا بالحبال، ورفعوا القارب بأكمله إلى الناقلة. لقد تم ذلك ونحن في غاية الإنهاك والقلق، بحيث لم ندر كيف تمكنا من التسلق بالحبال، وركوب الناقلة، المهم أننا وجدنا أنفسنا على متنها. كانت هذه الناقلة تعمل لحساب ليبيريا، وتنقل البترول إلى منروفيا، ورقم تسجيلها إيطالي، ولكن قبطانها كان أمريكيا. وعندما حللنا على متن السفينة، لقينا حفاوة كبيرة من طاقمها، وتعاطفوا مع قضيتنا، واعتنوا بنا ، إلا أن قبطان السفينة أبلغنا أنه مضطر إلى إدخالنا إلى جبل طارق وتسليمنا إلى اسكوتلنديارد، كما تقضي به القوانين الملاحية، ولذلك أخذنا وسلمنا إلى سلطات الجبل.
وهنا بدأت مرحلة جديدة، في مغامرتنا، تنذر بأوخم النتائج، وقضينا ليلتين بسجن جبل طارق، النساء في جهة والرجال في جهة أخرى، كان المحققون يحاولون الكشف عن أي علاقة لنا بالشيوعيين، وعندما كانوا يسألوننا هل نحن شيوعيون، كنا نجيب بالتساؤل بكل سذاجة ما معنى الشيوعية؟ وأخلي سبيلنا، وكان علينا أن نتدبر أمرنا في أربع وعشرين ساعة، للخروج من الجبل، والإفلات من خطر تسليمنا لبلدنا. ولم يكن ممكنا أن نستقل المركب، لأنه تعرض لبعض الأضرار نتيجة شده بالحبال ورفعه على متن الناقلة. لذلك قررنا الانقسام إلى فريقين، فأنا والسيدة الأخرى وطفلها، كنا نتوفر على جواز السفر، ولهذا لم نجد مشكلة في السفر مباشرة إلى طنجة في انتظار أن يلحق بنا الباقون، الذين كان عليهم انتظار إصلاح المركب، والعبور به، لعدم توفرهم على جوازات سفر. وقد تعرفوا على بحار متمرس، ساعدهم على إصلاح المركب وإعداده للإبحار، ونبههم إلى المسار الذي يجب أن يقطعوه للوصول إلى طنجة، لتجنب التيارات المعاكسة والاستفادة من التيارات المساعدة، فالمضيق كما بين لهم، مجال لتضارب تيارات متداخلة لا يعرفها إلا البحارة المتمرسون بالملاحة فيه، وبفضل توجيهاته تمكنوا من الإقلاع إلى المغرب متجنبين في نفس الوقت التيارات المعرقلة وأعين الشرطة الإسبانية.
تدخل كلاوديو موضحا: هناك في المضيق أربع تيارات متناقضة، وقد علمنا البحار كيف نستفيد منها ونصل بسلام إلى طنجة.
استأنفت مانويلا قائلة: عند وصولنا إلى طنجة تم اعتقالنا، وخضعنا للتحقيق، وتولى استنطاقنا مدير الأمن آنذاك، ولم يكن غير محمد أفقير، كان شخصا شريرا وسيئا، وأضاف كلاوديو: كان أفقير يريد معرفة هل لنا علاقة بالطلبة المغاربة، بينما كنا نؤكد له أننا هاربون من الحرب ولا نريد قتال حركات التحرر الإفريقية وعقبت مانويلا : لقد سمح لنفسه بالاستيلاء على مركبنا، يبدو أنه أعجبه، فأخذ يتجول به وأخذه للرباط.
سألتها ماذا وقع بعد ذلك؟ فأجابتني: تم إخلاء سبيلنا، وبما أنني أنا وزوجي كنا نتكلم الفرنسية، فقد قررنا الذهاب إلى الرباط، أما الآخرون فقد ظلوا بطنجة. لم نكن نعرف أحدا، إلا أننا تلقينا مساعدات من الطلبة المغاربة الذين تدبروا أمر استفادتنا من المطعم الجامعي. أضاف كلاوديو: كان الكاتب العام آنذاك [شهر يونيو من سنة 1961] شخصا لطيفا، استقبلنا وتفهم ظروفنا، وساعدنا للحصول على الإقامة مع الطلبة، في انتظار تسوية أوضاعنا. وقد سمعت أنه مات مغتالا، تدخلت متسائلا هل تعرف اسمه؟ فأجابني لا أذكر اسمه، واستعرضت عليه عدة أسماء وعندما ذكرت اسم عبد الرحمان القادري قال أظنه هو، وقد كان فعلا كاتبا عاما للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في ذلك الوقت، وشرحت له أنه مات بعد ذلك بمدة طويلة، ميتة طبيعية، وأوضحت له أن الأمر قد يكون اختلط عليه، لبعده عن المغرب ولعدم توصله بكل الأخبار لزمن طويل، وأن عمر بنجلون هو من اغتيل في السبعينيات من القرن الماضي، وكان أيضا رئيسا لجمعية طلبة شمال إفريقيا قبل سنة 1961.
استطرد قائلا: لم نهنأ كثيرا بوضعنا الجديد، فقد داهمت الشرطة الإقامة الجامعية، وأخلتها فطردنا منها مع الطلبة، ووجدنا أنفسنا بدون مأوى، لما يقرب من شهر، عانينا فيها كثيرا، فعقبت مانويلا على كلامه: لم يكن الأمر بهذا السوء، فقد كانت لنا صداقات، واستطعنا تدبر أمرنا في تلك الفترة العصيبة. كان في المغرب آنذاك مهاجرون برتغاليون، وتنقلنا في عدة مساكن، ولكن الأمور تحسنت بعد أن قرأنا إعلانا من وزارة التعمير والسكنى، تعلن فيه عن حاجتها إلى موظفين. كنت طالبة سابقة بالهندسة المعمارية، وكان كلاوديو طالبا في معهد الفنون الجميلة، ولنا دراية باللغة الفرنسية، فتقدمنا بطلب للالتحاق بالوزارة، وقبل طلبنا. وبذلك نعمنا بشيء من الاستقرار المادي، وتمكنا من كراء شقة بالرباط.
كان المغرب آنذاك ملجأ للكثير من البرتغاليين، الذين كانت لهم مواقف ضد النظام البرتغالي، وضد الحرب في أنغولا، وقد كونوا لجنة لدراسة أوضاع الهاربين من الحرب، وتدبر أمورهم، وقد فضل بعضهم السفر إلى فرنسا، أما “أولاد أمهاتهم” فلم يستطيعوا تحمل الغربة، وقرروا العودة إلى البرتغال بتوسط من الصليب الأحمر، أما نحن فقد قررنا تنظيم أنفسنا، وتنظيم المقاومة للغزو الاستعماري وتوزيع المنشورات المناوئة للحرب في أنغولا، ومساعدة الحركات التحررية، وذلك بدعم من الحكومة المغربية التي كانت تناصر الحركات التحررية الإفريقية آنذاك. وقد أصدرنا مجلة، وكان كلاوديو هو من صمم غلاف عددها الأول.
سألت كلاوديو: هل لك أن تحدثني عن قصة السفارة البرتغالية بالرباط؟ ابتسم قليلا، فقد كان يعلم إلحاحي على معرفة التفاصيل، فاسترسل قائلا: في إطار معارضتنا لسياسة الحكومة البرتغالية، قررنا أن نقوم بعمل يكون شديد الوقع، ويعطي لفكرتنا انتشارا واسعا في العالم، ويحرج نظام سالازار، ومن هنا جاءت فكرة اقتحام السفارة البرتغالية بالرباط، حيث أعددنا الخطة للهجوم عليها، وكتبنا على حيطانها شعارات مناهضة للنظام السالازاري، مثل ليسقط سالازار، سالازار قاتل، ودخلنا إلى السفارة وأخذت منها بعض جوازات السفر البرتغالية. كان ذلك في نهاية سنة 1961، وخرجت الصحف في اليوم التالي بعناوين عريضة عن حادث اقتحام السفارة من حركات مناهضة لنظام سالازار ورافضة لسياسة الحرب في المستعمرات. انتقل صدى هذه الحادثة إلى خارج المغرب، وتلقفه البرتغاليون المغتربون بلهفة، وتردد صداه في البرازيل حيث يوجد عدد مهم من اللاجئين البرتغاليين. اعتقد البرتغاليون في العالم أن المغرب يتوفر على حركة قوية ومنظمة معارضة لسياسة سالازار الاستعمارية، فاشتعل حماسهم، وبدأ بعضهم يتقاطر على المغرب للانخراط فيها. أما العلاقات بين المغرب والبرتغال فقد توترت، وتأزمت لحد القطيعة.
سألته هل قمتم بمبادرات أخرى في تلك الفترة؟ أجاب: نعم. وصلت إلى المغرب جماعات متحمسة للعمل، وتداولنا كثيرا في الخطوة القادمة، واتفقنا على خطف طائرة برتغالية. سألته للتأكيد: خطف طائرة؟ فأجاب نعم بكل تأكيد. كانت الطائرة ترسو في طنجة في طريقها من أنغولا إلى البرتغال، وقررنا الاستيلاء عليها، والإقلاع بها إلى لشبونة، وإلقاء المنشورات المناوئة للحرب ولنظام سالازار فوق مدينة لشبونة. لم أشارك في العملية وإن كنت خططت لها، وقد تمكنا من تنفيذ المهمة بفضل مساعدة السلطات المغربية، وعادت الطائرة إلى طنجة. وحسب الاتفاق قامت السلطات المغربية بإلقاء القبض على الخاطفين، ولكنها لم تسجنهم، لأنها ستكون مطالبة بتسليمهم للدولة البرتغالية، ولكنها طردتهم، حسب الاتفاق معهم، إلى البرازيل، وأعتقد أن الحادثة زادت من تعميق القطيعة بين الدولتين وإغلاق السفارة البرتغالية بالرباط.
هناك مسألتان جديرتان بالحديث عنهما في هذه الفترة القصيرة التي قضيتها بالمغرب، الأولى وهي حضوري للاحتفال بدخول بومدين وفرقه العسكرية إلى الجزائر لخوض حرب التحرير ضد الفرنسيين، وكان الجزائريون وقتها في حاجة إلى تضامن حركات التحرير العالمية، وكنت أعرف سيدة إسبانية تشتغل بوزارة السكنى، وهي ثورية، فطلبت مني أن أذهب إلى وجدة، حيث كان بومدين وجنوده يعدون العدة لدخول الجزائر المستعمرة آنذاك، فذهبت لأعبر عن تضامن البرتغال مع الجزائر في حربها التحررية. أذكر أنني ذهبت إلى هناك صحبة الرفيق علي يعتة، وفي منطقة ما على الحدود، كان الظلام دامسا، بحيث لا نرى أحدا ولا نسمع سوى وشوشة الجنود، المحتشدين، صعدت إلى منصة، في الظلام، وأمسكت بالميكروفون، وألقيت خطابا بالفرنسية أمام مئات من الناس، لا يرون شيئا. وفي الصباح الباكر دخلوا إلى الجزائر.
والمسألة الثانية هي وصول مناضل ثوري برتغالي يدعى الجنرال هومبرتو ديلكَادو إلى المغرب. هذا الرجل بطل قومي وكان معارضا شرسا لنظام سالازار، وهو في الأصل عسكري، شغل عدة وظائف، ومن بينها تمثيل بلاده في منظمة الحلف الأطلسي بأمريكا، وهناك اتخذ موقفا مناهضا للنظام السالازاري، وفي سنة 1958 رشح نفسه للانتخابات الرئاسية مقابل ممثل سالازار أميركو توماس، وأعلن أنه سيعزل سالازار من الوزارة الأولى إذا وصل إلى الرئاسة. وحصل على ما يقرب من ربع الأصوات على الرغم من تدخل نظام سالازار وتزويره للانتخابات لصالح الرئيس المقرب منه. وقد اضطر إلى اللجوء إلى البرازيل خوفا من الانتقام والمضايقات.
عندما سمع هذا الرجل بوجود مجموعة معارضة بالمغرب، قدم من البرازيل للبحث عنا والحصول على مساعدتنا للعودة إلى البرتغال، حيث كان يفكر في القيام بثورة على النظام السالازاري. أوضحنا له أن إمكانياتنا محدودة، وأننا لا نملك مركبا، ولكننا ساعدناه على السفر إلى البرتغال، وقمنا بتزوير جواز سفر ليستعمله في دخول البرتغال. كان الجواز لبرتغالي جمهوري قديم، مقيم بالمغرب، فأعلن عن ضياع جوازه، وسلمه لنا، فوضعت عليه صورة دلكَادو وزورته. سألته: زورته ؟؟ أجاب نعم. لا تنس أنني رسام ماهر. بعد ذلك دخل هذا الرجل إلى البرتغال ، واستولى على ثكنة عسكرية بمدينة باجة، ولكن ثورته فشلت، وقد ساعده الحزب الشيوعي على السفر، إلى إيطاليا ثم الجزائر بعد استقلالها، حيث كان يعد للثورة على النظام السالازاري. لكن نهايته كانت على يد هذا النظام الذي استدرجه إلى إسبانيا بنية التفاوض معه، فوجد في استقباله الشرطة السرية التي قامت باغتياله سنة 1965.
تدخلت وقلت له: لنعد إلى قصتك، فاستأنف قائلا: بعد حادثة الطائرة، لم يعد بإمكاننا البقاء في المغرب، وبما أنني كنت منتميا إلى الحزب الشيوعي، فقد أعددت العدة للسفر من جديد إلى أوربا، بمساعدة من الحزب. أنا وزوجتي، وابنتنا نادية التي ولدت في المغرب في يناير 1962. أدى الحزب الشيوعي ثمن تذكرة الطائرة من المغرب إلى تشيكوسلوفاكيا، ومنها إلى براغ، وأرسلونا إلى برلين، لكنني لم أكن أرتاح إلى الألمان، فقررت الذهاب إلى بوخارست برومانيا، حيث كلفنا بمهمة تنظيم الإذاعة الموجهة للبرتغاليين، لحثهم على معارضة النظام، والدعاية ضد الحرب في المستعمرات. وفي السنة التي اجتاحت فيها الجيوش السوفياتية النمسا ودخلت إلى براغ، قدمت استقالتي من الحزب الشيوعي، أما زوجتي فلم تكن منخرطة أصلا في الحزب. كنا نقدم ثلاثة برامج يوميا في الدعاية المضادة لنظام سالازار، وفي رومانيا ازداد بقية أبنائي، قضيت هناك 11سنة من عمري، ثم قررنا العودة إلى البرتغال. وكان ذلك سنة قبل الثورة، وقد ذهبت مانويلا أولا، مع الأولاد. هنا تدخلت مانويلا قائلة، أرأيت الشجاعة؟ الرجال يبعثون النساء أولا وينتظرون النتيجة؟ فعلق مازحا: النساء أولا، “الإتكيت” تقتضي ذلك. تروي مانويلا عن رجوعها، الذي كان في يوم 15 أبريل: بمجرد وصولنا إلى البرتغال، أودعونا السجن، ولكن التجربة علمتني التعامل مع المستجوبين، لتجنب عقوبة قد تصل إلى 25 سنة. كنت خلال الغربة قد حصلت على بعض الشواهد الجامعية، ولذلك أجبتهم عندما سألوني ماذا كنت تفعلين بالخارج طيلة هذه المدة بأنني كنت هناك من أجل الدراسة. لم يقتنع المحقق بكلامي، لأن عشر سنوات كثيرة من أجل الدراسة، فقلت له، إنني اضطررت أولا إلى تعلم اللغة الرومانية، وبما أنني لست ماهرة في تعلم اللغة فقد تطلب مني ذلك وقتا. لكنه ألح قائلا، ومع ذلك فالمدة طويلة، فقلت له لا تنس أنني تعثرت في الدراسة بسبب الرسوب والأولاد، فقال لي ولكنك حصلت على نقط عالية، فأجبته، نعم، لأن رسوبي كان يمكنني من تكثيف العمل والاستيعاب أكثر للمقررات. وبفضل تماسك روايتي، ورباطة جأشي، وتظاهري بالسذاجة أمام الأسئلة المتعلقة بالسياسة، فقد تمكنت من الدخول إلى البرتغال، ولم أقض بالسجن سوى شهر ونصف، بينما قضيت به قبل مغادرة البرتغال ثلاثة أشهر.
التفت إلى كلاوديو، وسألته: وماذا عنك؟ فأجاب، كنت أفكر في طريقة لدخول البرتغال، وانتقلت من رومانيا إلى فرنسا، وعشت ما يقرب من سنة في باريس، اشتغلت بها في مهن متعددة. سألته : مثلا؟ أجاب : اشتغلت تقنيا متخصصا في المداخن المنزلية، كما اشتغلت في تصوير الدماغ بالأشعة الكهربائية. عندما تعذر علي رسم الكلمة بالفرنسية، أمسكت مانويلا القلم وكتبت بخطها العبارة بالفرنسية: (electro-encéphalographie)، واستطرد كلاوديو قائلا: كان معي صديق مغربي، كنت أعرفه قديما حين كنت بالمغرب، هو الفنان أحمد الودغيري، وكنا نرسم صورا ونبيعها لليابانيين. وعندما قامت الثورة في البرتغال، عدت إلى الوطن.
لم تكن لدي معرفة بالرسام الفطري الودغيري، لكنني عرفت بعد البحث عنه أنه توفي في نفس السنة التي انتقل فيها كلاوديو إلى البرتغال، أي سنة 1974.
بعد العودة إلى البرتغال، تغيرت اهتمامات كلاوديو طوريش، فاشتغل بالأركيولوجيا، وهام بها، واشتغل أستاذا للأركيولوجيا بالجامعة البرتغالية بلشبونة، وكان أحد طلبته قد انتخب رئيسا لبلدية مدينة مرتولا، فعرض عليه القدوم إلى المدينة، والإشراف على الأبحاث الأثرية التي تجري بها، فقبل العرض، وقدم إلى المدينة التي أسرته بطبيعتها الساحرة، وبمآثرها التاريخية المتعددة، فقضى ما يقارب الأربعين سنة أسير جمالها، مشتغلا في كشف أسرارها، وحولها من شبه قرية مهمشة في أقصى الجنوب البرتغالي، إلى وجهة سياحية بامتياز، بها ما يزيد على ثلاثة عشر متحفا، وتستقبل أكثر من 15 ألف سائح في السنة، وهي المدينة التي لا يتجاوز عدد سكانها الألف نسمة.
أصبح كلاوديو نفسه معلمة من معالم المدينة، يعرف الناس واحدا واحدا، ويسأل عنهم، ويهتم بأمورهم، ويحظى بمودتهم وتقديرهم. وعندما تحدثت مع نادية ابنة كلاوديو، قلت لها، لا شك أن سر شعبية أبيك، وتعلق السكان به راجع إلى أنه شخص خدوم، فقالت: قد يكون كذلك، ولكن المهم أنه يحب الناس، وهم يشعرون بذلك، ويعطونه بقدر ما يعطيهم من الحب.
انتهى الحوار بدون أن نتطرق للجانب الآخر الذي يميز شخصية كلاوديو طوريش وهو المنجزات الكبيرة في مجال الحفريات الأركيولوجية التي قام بها وأشرف عليها، وهو بدون شك سيكون موضع مقالة قادمة بإذن الله.
كلمة مصورة لكلاوديو طريش خلال لقاء علمي مشترك مغربي برتغالي
بعد التحية، لديك مواهب صحفية واضحة جعلت روايتك ـ بأسلوبك الشقي ـ ممتعة جدا . تمنيت لو كتبت تحت الصور أسماء الظاهرين عليها . وفقك الله
الصحيح: بأسلوبك الشيق
مساء الخير
يكفي أن أقول لك إن العمل يأسر قارئه ولعل ذلك راجع إلى نفسه الروائي القوي الأمر الذي أخرجه من الكتابة الصحفية وأدخله إلى عالم الرواية والإبداع وأبقاك أديبا ومؤرخا كما عرفناك وأبان عن قدرة أخرى كامنة في عثمان المؤرخ
نص ممتع، جمع بين التشويق والفائدة. والقريب من سي عثمان يعرف ملكته الأدبية المتسترة تحت جلباب المؤرخ، ويعرف قدرته على استيفاء السهل الممتنع، أي تدليل المستعصي وتطويعه حتى يعود رهن إشارة المتخصص والعادي من القراء. قد يدرك مع هذا التمرين الموفق، أن الأوان قد حان ليلج جنسا مغايرا من الكتابة، أن يبتعد لبعض الوقت عن الخبر والواقعة ويكتب في ليس في الصحافة وحسب، بل وفي القصة والرواية. والقريب من سي عثمان يعلم علم اليقين أن هذه “الغواية” راودته غير ما مرة…
بداية موفقة صديقي العزيز
بلدياتك لطفي بوشنتوف
حوار يمزج بين المتعة والفائدة..، اكتشفتُ من خلاله السيد كلاوديو طوريش، وقوة حافظته مع عمره المتقدم. ووقفت كذلك على موهبة جديدة من مواهب سّي عثمان المتعددة! إنها “مهنة المتاعب”، وأقترح على النقابة الوطنية للصحافة الالكترونية بالمغرب أن تمنحه البطاقة المهنية!