الجمعة , مارس 29 2024
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / جديد الموقع / الأستاذ عثمان المنصوري يكتب: شؤون تاريخية 7، حرفان خفيفان على اللسان ثقيلان في الميزان: لا.

الأستاذ عثمان المنصوري يكتب: شؤون تاريخية 7، حرفان خفيفان على اللسان ثقيلان في الميزان: لا.

عثمان المنصوري

عثمان المنصوري

حرفان خفيفان على اللسان ثقيلان في الميزان: لا

       مر بنا سابقا أن جزءا كبيرا مما يعانيه البحث العلمي من المشاكل يعود إلى رضوخ الباحثين لإكراهات الأمر الواقع، وسكوتهم وتعايشهم مع ما يفرض عليهم من عادات وأعراف وقوانين، على الرغم من معرفتهم بأضرارها.

       عادة يعمد الباحث الضعيف أو المنحرف أو المتهاون في عمله، إلى تعميق هامش مكتسباته وامتيازاته على حساب الباحث المتمكن الجاد والمجتهد، وشيئا فشيئا يتحول الاستثناء إلى قاعدة، ويعم الفساد البر والبحر، وتهون المصيبة بعد تعميمها. ولو لقي المفسدون مقاومة لسلوكاتهم، ورفضا لعبثهم لما تمادوا في ذلك.

       النقد هو أول الأسلحة التي تحد من مشاكل التسيب الذي تسَيد في مجاليْ البحث والتدريس، وهو غائب أو شبه غائب في وقتنا الحاضر. ومعظم باحثينا يفضلون الاكتفاء من الغنيمة بالإياب، والابتعاد عن المشاكل، وينزهون أنفسهم عن الخوض فيها علنا والكتابة عنها، ولكنهم لا يفترون عن الحديث عنها في مجالسهم وأحاديثهم الشخصية، وبدون مواجهة المتسببين فيها، وبدون المساهمة في متابعة الأعمال التي تنشر هنا وهناك، ونقدها وتقويمها، وبذلك يفوتون على أصحابها فرصة الاستفادة من خبراتهم، ويفوتون على قرائها التمييز بين الصالح والطالح فيها.

       النقد ليس عيبا ولا شيئا مشينا، إنه ظاهرة صحية، وأمر حيوي وضروري في كل المجالات، وبدونه لا يمكن لأي مجال أن يتقدم، وهو الذي يبصر الناس بأخطائهم، وينبههم إلى ميزاتهم ومحاسنهم، وينير مسالك بحثهم، خاصة إذا ما كان الناقد من ذوي الرأي والتمرس في مجال البحث ومن المتخصصين في المواضيع التي ينتقدها.

       وللنقد آداب وشروط يعرفها المختصون، وإلا تحول إلى مهاترات وتنابز، وانصرف من الأفكار إلى الأشخاص، ولبس لبوس “المَعْيار” والذم والقدح، الذي نربأ بباحثينا عنه.

       ليس النقد متاحا للجميع، فالناقد يجب أن يكون موضوعيا ومحايدا وغير متحامل، وملما بموضوع نقده إن لم نقل متمكنا منه، وأن يطلع بروية وعمق على العمل الذي ينتقده، وأن يكون متأكدا من ملاحظاته وتصويباته، وعليه أن يختار جيدا كلامه، وينصب على الموضوع، ولا يحشر فيه المسائل الشخصية الخارجة عنه، ولا يتعرض لشخص المؤلف إلا بالاحترام الواجب. لأن النقد مثل الدواء، قد يكون مرا، ولكنه ضروري للعلاج، ولا بد من تحليته ليستسيغه المريض.

       ليس من الهين على أي باحث أو كاتب أن يتقبل النقد بسهولة، ومن البديهي أن تصدر عنه ردود فعل تلقائية، فالمفروض أنه قضى وقتا طويلا، وبذل مجهودا كبيرا في البحث والاطلاع والكتابة، وراجع عمله بدقة لتفادي كل الأخطاء المحتملة، وربما راجعه مع زميل من زملائه، فهو يعتقد جازما أنه أعطى أحسن ما يمكن أن يعطيه، وكأن لسان حاله يقول: ليس في الإمكان أفضل مما كان، ولذلك لا يتصور أن يقابل عمله بالنقد، وخاصة إذا كانت لديه بعض الجرعات من النرجسية والرضى الزائد على النفس الذي يتغذى بعبارات المجاملة التي يغدقها عليه غير المتخصصين، ممن لم يطلعوا أصلا على العمل أو ليس بمستطاعهم الحكم الصحيح عليه. سيكون النقد مفاجأة لأننا إذا لم نعود أنفسنا عليه، لأننا سنعتبره عملا مغرضا وتعبيرا عن الحسد والبغض، ولا ننظر إلى الوجه الإيجابي فيه.

       يجب أن نتعود على النقد، لأنه مفيد في كل الحالات: فإذا كان في محله، دلنا على عيوبنا ونقائصنا، ووجهنا إلى ما يفيدنا في أعمالنا القادمة، ومكننا من التعرف على موقف ورؤية المتلقي الذي نكتب لأجله، وإذا لم يكن في محله، فإنه يعطينا فرصة لشرح ما يحتاج للشرح، ولتصويب كلام المنتقد، وفتح حوار جدي معه. وإن كان الناقد متحاملا، فذلك أمر لا يعنينا كباحثين، ولكن تركيزنا يكون دائما على مضمون كلامه، فكونه متحامل لا يعني بالضرورة أنه على خطأ. وكلما تحول النقد من مقارعة الأفكار إلى المس بشخص الكاتب إلا وفقد مصداقيته وقدرته على الإقناع، ودل على فراغ جعبة الناقد من الأفكار المفيدة.

       الكتابة ليست أمرا سهلا، والبحث التاريخي عمل شاق ومضن، ويتطلب الكثير من الجهد والصبر، وعندما يتوج الكاتب ذلك بالنشر، فإن واجب التهنئة هو أول ما يجب علينا تقديمه له، وسيكون سعيدا إذا وجد، في زمن العزوف عن القراءة،  من يقرأ عمله باهتمام، أما إذا وجد من يتمعن فيه ويدرسه ويحاول تقويمه وإبداء رأيه فيه، ويقدم له نصائحه، فسيكون أكثر حظا وسعادة، وعليه أن يتقبل النقد بصدر رحب، بل بانشراح وغبطة.

       النقد الحقيقي لا يتجه مباشرة إلى السلبيات، ولكنه يقوم العمل بمحاسنه ومساوئه، ويساعد المؤلف والقارئ على تبين نقط الجودة ومكامن الضعف، فكما نستفيد من الأخطاء يمكن أن نتعلم من الإيجابيات. كما أن النقد وحده هو الذي يمكننا من تبين الغش والتدليس، في حالات السرقة والاقتباس غير المشروع والتعامل السيء مع المصادر والمراجع، ومعرفة تمكن المؤلف من اللغة أو اللغات التي يعتمد عليها، وصحة اطلاعه عليها. وفي المناخ السليم يصبح التعامل بالنقد وسيلة عادية لتطور المعرفة وتلاقح الأفكار وتوالد المشاريع، والعمل الجماعي ومراكمة المعرفة.

       النقد كلمة لا كبيرة نقولها لحصر ومحاصرة التردي، ولو رفعناها بكل قوة في الأوقات المناسبة لتمكنا من تحصين تعليمنا وإنتاجنا العلمي.

       لو قلنا لا لمواجهة الاكتظاظ الذي يمنعنا من التدريس في ظروف جيدة وتقويم  أعمال طلبتنا تقويما حقيقيا وجيدا، ولو قلناها لمنع كل المحاولات التي تسمح بنجاح من لا يستحق تحت أي ذريعة كانت، ولمنع زميل يصر على تدريس نفس المادة لأكثر من عقدين، بأوراقها الصفراء المهترئة، ويكيفها مع جميع الإصلاحات الجامعية، أو يحصر شغله في السويعات التي يدرس فيها، ويهمل باقي واجباته الجامعية، ولو قلناها لزملائنا الذين يقدمون لنا أعمالا غير ناضجة ولا جاهزة للنشر، لننشرها في ندواتنا ومجلاتنا “المحكمة”، ولو قلناها لمسالك الماستر التي تنشأ بدون توفر المقومات وبأعداد تفوق طاقتنا التأطيرية، ولو قلناها لمن يرضون بتأطير أعداد من طلبة الدكتوراه تفوق إمكانياتهم، مهما كانت الإكراهات، ولو قلناها عند فحصنا للأطروحات المرشحة للمناقشة وعند المناقشة، وعند منح الشهادات. ولو قلناها لأنفسنا فامتنعنا عن الخوض في المواضيع التي لا نتقنها، والمشاركة في ما يعرض علينا بدون توفر الوقت المناسب، وإرضاء الخواطر بأعمال غير تامة أو بدون مجهود يذكر وبدون جدة، أو مكررة لا تتغير فيها إلا العناوين، أو مقحمة في محاور لا علاقة لها بها. لصلحت أحوال البحث العلمي إلى حد بعيد. ولو قلنا هذه الكلمة أمام لاءات المفسدين والمتهاونين، الذين يصرون على لاءاتهم، لكانت لاؤنا أقوى لأن الحق ينطقها ويخرس اللاءات الأخرى.

       إنها كلمة نهش بها على الغنم الشاردة لردها إلى القطيع، ووسيلة فعالة لتحصين الوسط العلمي من الأمراض التي تنخره، وتجعل من يفكر في الكتابة والنشر يراجع نفسه وطريقة عمله، ويعمل حسابا للمتلقين. إنها سلاح قوي إذا قيلت في وقتها وفي مكانها الصحيح. وعلينا أن نعود ألسنتنا عليها ولا نكتفي بالسكوت الذي لا يعتبر هنا حكمة ولا علامة على الرضى، بل هو شيء شبيه بالجبن والتواطؤ.

       جربوا لا: هذه الكلمة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان، وسترون النتائج بالعيان، وإياكم أن تقتدوا بعلي بن الحسين الذي قال فيه الفرزدق بيته الشهير:

                 ما قال لا قط إلا في تشهده        لولا التشهد كانت لاءه نعم

4 تعليقات

  1. عبد الوهاب المريني

    لا فض فوك ولا جف قلمك.
    لو استجاب الزملاء لعشرة في المئة لملاحظاتك وتنبيهاتك؛ربما سنكون وضعنا ارجلنا علي اول الطريق

  2. حدوش ع الحميد

    كلمة صادقة جامعة لخير البحث العلمي ومانعة للفساد والانحطاط. جزاك الله خيرا ورمضان مبارك.

  3. احمد بلخيري

    كلمات معبرة وصادقة وبدون مجاملة تعبر عن شجاعة أدبية ماأحوجنا إليها
    اليوم لتسليط الضوء على الأعطاب التي يعيشها واقعنا العلمي والثقافي

  4. لميسي محمد

    ما أروع مقالك استاذ شكرا جزيلا هلى هذه التنبيهات والملاحظات

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .