صفحة مخصصة لمقالات الرأي وللحوارات مع باحثين ولمختلف الكتابات العلمية أو الفكرية أو الابداعية
ملف دانيال بعيون مؤرخ التاريخ الفوري
د. إبراهيم القادري بوتشيش
ديباجة:
يقول العبد الفقير:
إنني زاهد في السياسة ، وحظي من قاموسها لا يتعدى وزن جناح بعوضة، ولكني أجد بعض النقاشات السياسية الدائرة في المجتمع المغربي تشدني إليها، وتدفعني لتفسيرها ضمن سياق مقاربات تاريخية ، يراودني هاجس ربط الماضي بالحاضر، ويفتح شهيتي، ويزيدني قناعة أن المؤرخ بقدر ما يبتعد عن سياج السياسية ، بقدر ما يقترب منها وهو يكتب.
في هذا المنحى ، أدعو الزملاء المؤرخين إلى هذا المقال المختزل المنشور في جريدة هسبريس الإلكترونية مباشرة بعد حادث دانيال المشهور ، والأمل معقود على فتح النقاش في هذه النافذة التي تتيحها الجمعية المغربية للبحث التاريخي.
يعد ملف دانيال الأنموذج الأمثل للموضوع الذي يمكن للمؤرخ دراسته في سياق ما يعرف بالتاريخ الفوري L’histoire immediate، أو ما يسميه البعض ب” التاريخ الآني” أو ” التاريخ اللحظي ” أو ” تاريخ الزمن الراهن “. ورغم أن هذا الملف قد طوي نسبيا بفضل الحكمة الملكية وتجاوبها مع الإرادة الشعبية ، فإنه سيظل مع ذلك ملفا أكاديميا مفتوحا لكتابات واستنباطات وتحقيقات مؤرخ التاريخ الفوري، باعتباره جزءا من الذاكرة الجماعية ، ولحظة ناطقة بضمير الأمة .
ودون الدخول في أتون المعارك الفكرية التي استعرت بين أنصار مدرسة التاريخ الفوري ومعارضيهم ، فإنني سأكتفي بإثارة نقطة مرجعية تؤطر منظور الطرفين معا ، لما لذلك من صلة بملف دانييل ” كتيمة” تاريخية تستدعي الاستقصاء والتمحيص ، وهي نقطة تكشف قوة أو ضعف الأطروحة التي يحملها أنصار المدرسة السالفة الذكر ومعارضوها ، وتتعلق بالمسافة الزمنية الفاصلة بين الواقعة التاريخية ولحظة كتابتها .
فمعارضو التاريخ الفوري من رواد المدرسة التاريخية الكلاسيكية يشترطون امتداد المسافة بين المؤرخ والتأريخ للحدث كمبدأ وشرط لا محيد عنهما لكتابة تاريخ يتسم بالمصداقية ( وهي مسافة يحددها البعض في 30 سنة ، بينما يصل بها البعض إلى 50 سنة بعد انتهاء الواقعة التاريخية ) . وحجتهم في ذلك أن المقاربة الموضوعية واكتمال حلقات الحدث ، ولملمة خيوطه ، وظهور معطياته ووثائقه وحيثياته لا تتوفر في لحظة الحدث، ولا يمكن للتحليل الرصين أن يستقيم في غياب هذه المسافة الزمنية الضرورية التي تتيح انجلاء الحقائق ، وتبلور النتائج في قالبها النهائي ، وتسمح بانتهاء عملية الفرز والتنضيد وإعادة البناء التاريخي. أما إذا تجرّأ المؤرخ وغامر بمعالجة قضية لا تزال” تحت المراقبة ” وتحت رحمة ” الزمن المغلق ” أو ” الزمن المبتور” على حدّ تعبيرهم ، فإن ذلك يجعله أقرب إلى الصحفي منه إلى المؤرخ المحترف .
كما أن لحظة حادثة دانيال رافقتها موجة اتسمت بتأجج العواطف التي أفرزها الانشداد القوي إلى كرامة الوطن المخدوش في شرفه وكبريائه ، وإلى براءة الأطفال التي جرحت جرحا غائرا لا يطويه الزمن، وكلها معطيات قد تحمل مؤرخ التاريخ الفوري على السقوط في شراك النزعة العاطفية ، وتجعله يفقد جرعات الهدوء والتجرد والحذر ، والتثبت الرصين ، وهي الشروط ” المقدسة ” لعمل المؤرخ .
بيد أن أنصار التاريخ الفوري يجدون في ملف دانييل ما يفتقده معارضوهم ، فمثل هذه الواقعة تندرج في التاريخ الحيّ والمباشر الذي لا يزال فاعلوه على قيد الحياة ، وأمامهم فرصة لا تعوض لاستقاء مادتهم التاريخية من شهادات هؤلاء ، ومن أفواههم وليس عن طريق الواسطة ، وهذه نقطة قوة لا موطن ضعف . كما أن المؤرخ لقضية دانيال يعايش ذهنيات معاصرة واكبت الحدث ،وليس ذهنيات مغتربة عن زمنها التاريخي على حدّ تعبير René Remond . فمؤرخ التاريخ الفوري يكتب عن تاريخ معاش، ويتمتع بسلطة ملامسة لحظة إنتاج الحدث والحالة العامة التي أفرزته ، بل – وهذا هو موطن القوة – يمكن أن يجري مقابلات مع الفاعلين الأساسيين ، ممن ساهموا في الحدث بلحمهم ودمهم ، وأن يمطرهم بأسئلته واستفساراته من أجل تحرّي الحقيقة التاريخية وإنقاذها من الانطمار في غياهب النسيان .
لكن إذا سلمنا بأن هذا الامتياز يعد – دون مدافع – نقطة قوة بالنسبة لمؤرخ التاريخ الفوري ، فهل ينطبق هذا التخريج على مؤرخ فضيحة دانييل التي تندرج في فضاء التاريخ الفوري أو تاريخ الزمن الراهن ؟
أحسب أن ثمة مطبات تعتور سبيل مؤرخ تاريخ الزمن الراهن الذي يسعى إلى دراسة هذا الملف دراسة تاريخية شمولية ومستوعبة لكل المعطيات و الأبعاد ، وذلك لعدة اعتبارات :
1- إن ملف دانيال هو ملف فضيحة جنسية مرتبطة باغتصاب أطفال ، مما يجعله موضوعا تاريخيا نوعيا ، يندرج في خانة التاريخ المسكوت عنه أو تاريخ الطابوهات والمحظورات التي لا تزال تشكّل مساحة تاريخية قليلة الإضاءة ، وعادة ما يسدل عليها المجتمع جدارا سميكا من التكتّم باعتبارها مسألة خادشة للحياء ، وتدرجها ثقافة العامة في دائرة “الحشومة” و “العار” ، لذلك لا غرابة أن يجد مؤرخ التاريخ الفوري نفسه في حالة مثل هذه أمام أبواب أوصدتها تقاليد مجتمع محافظ ، تغض الطرف عن كل ما هو خارج عن المألوف . وحتى لو أسعفه الحظ في مقابلة أولياء الضحايا فلن يجد أمامه سوى مادة تاريخية هزيلة ، وأجوبة شاحبة ومتشظية ، يفضّل أصحابها إقبارها وجعلها نسيا منسيا بدل إثارتها بكل أبعادها وتفاصيلها.
2- إن الضحايا الذين يفترض من منظور مدرسة التاريخ الفوري تنظيم مقابلات معهم لاستقاء مادتهم التاريخية هم أطفال براعم ، لا يربو عمر بعضهم عن ثلاث سنوات . ورغم ما يقال عن أن (( الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال )) ، فمن الصعب أن يدرك هؤلاء البعد المعرفي للمؤرخ ، ويفهموا أهدافه ومراميه الإبستيمولوجية ، ناهيك عن الصدمة التي لا تزال وستظل تخيّم على نفوسهم البريئة ردحا طويلا من الزمن ، وتحول دون البوح بكل ما يخترق صدورهم من مرّ الأحاسيس ، وما يختلج في ضمائرهممن سوادالفاجعة والصدمة النفسية .
3- إن دانيال – وهو الفاعل الأساسي في الحدث – قد غادر المغرب وربما إلى غير رجعة ، ويوجد حاليا في قبضة السلطات الإسبانية ، مما يتعذّر على المؤرخ إجراء مقابلة معه واستنطاقه عبر أسئلة وفرضيات تروم تجميع حقائق الحدث وتنضيدها وتركيبها تركيبا تاريخيا . بل إن الرأي العام المغربي -والمؤرخ جزء منه – لم يتثبت لحدّ الآن من أصل هوية هذا الفاعل هل هو إسباني الجنسية ؟ هل هو عراقي ؟ هل هو جاسوس شارك في الإطاحة بالراحل صدام حسين ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتشابكة التي يكبح غياب أجوبة عنها عنان المؤرخ ، ويزيد من تعقيد من مهمته، ويجعل دراسة بيئة هذا الفاعل وأثرها النفسي مسألة صعبة المنال.
4- ومن بين المطبات التي تعترض مؤرخ هذا الحدث أيضا أنه حتى في حالة إذا نجح في مقابلة أولياء الأطفال الضحايا ، فمن الصعب استخراج ما يمكن استخراجه من معطيات تفيد في كتابة ” تاريخ الممنوعات ” ، وحسبنا أن صور وجوههم قد حجبت في النقل التلفزي للاستقبال الملكي لهم ، بل إذا صحّت الأخبار التي تناولتها بعض المواقع الإلكترونية ، فقد تمّ منعهم من الاتصال بالصحافة لتنوير الرأي العام ، مما يزيد من حلكة الغموض الذي يلفّ هذه القضية، ويغلق أبواب التثبت والمساءلة وارتياد مغلقاتها في وجه المؤرخ الآني أو اللحظي .
5- يضاف إلى هذه المطبات ، ضعف المعطيات المتوفرة وتضاربها ، فقد جرى التعتيم على ملف دانيال بشكل محبوك حتى أن المؤرخ يجد نفسه أمام مشهد مضبّب لا يتبيّن فيه الخيط الأبيض من الأسود ، وبالتالي فإن المعطيات والمعلومات الدقيقة التي هي أيضا ” شرط مقدس ” في عمل المؤرخ تنتفى في هذا الحدث . ومما نسوقه في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر نموذج الأطفال الضحايا أنفسهم : ما هي أسماؤهم ؟ وهل عددهم 11 أم أكثر كما توحي بذلك قصاصات الأخبار التي أتت بها بعض الصحف ؟ ولماذا لم يتم نشر محاضر الضابطة القضائية وحيثيات اعتقال دانيال؟ومن كان معه في لائحة المجرمين ؟ وهل تتشابه جرائمهم مع ما اقترفه دانيال ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يمكن كتابة تاريخ فوري إلا بفك ألغازها ووضع الأصبع على أجوبتها الشافية.
6- أما الصمت الذي خيّم على القضية ، وخاصة في بداية تداولها عبر وسائل الإعلام ، فتلك أيضا عقبة أخرى تكبحطموح مؤرخ تاريخ الزمن الراهن وتحول دون إبعادها عن دائرة حلقات التاريخ اللامفكر فيه . فمثل هذا الصمت يزيد من سمك الغشاوة التي تلف الحدث ، ويترك حبل أمره على الغارب، ويجعل المؤرخ الفوري عاجزا عن فكّ شفراته وألغازه. ومهما كان بارعا في لعبة الكلمات المتقاطعة في علم التاريخ ، فليس بمقدوره سوى الاستئناس بفرضيات واجتهادات لا تنفع معها التصريحات التي تلت الحادث بعد قرار الملك الجريئ بسحب العفو؛ وحسبي التضارب الذي دمغ تلك التصريحات ، وسعيكل طرف من الأطراف المسؤولة إلى النجاة بجلده وتبرئة نفسه ، بدل البحث عن الأسباب والعوامل الدفينة أوالباطنية حسب تعبير ابن خلدون . فوزارة العدل والحريات سمت بالحدث إلى أعلى عليّينحين وضعته في منزلة المصلحة الاستراتيجية العليا للمغرب ، بينما ابتسرت السفارة الإسبانية الحدث في مجرد خطأ ” تقني “وقع في فخه المسؤولون عن دائرة العفو، في حين آثرت وزارة الداخلية الصوم عن الكلام ، مقابل شهية كبيرة أبدتها في استعمال العصا الغليظة ضد المدافعين عن كرامة الوطن . فكيف للمؤرخ أن يستخرج مادته التاريخية من أوحال هذا الصمت الرهيب، والتضارب الذي يومئ إليه ابن خلدون ويعبّر عنه بمصطلح ” الأغاليط”؟؟.
7-وقد تكون أكبر مطبّة تعترض سبيل مؤرخ هذا الحدث تناسل”اللاأدريات” التي بدأت تخرج من أفواه المسؤولين رغم ما طالهم من عزل ، وما أشارت إليه الأصابع بضلوعهم في المسؤولية . بل إن ملف دانيال استغل سياسيا ، فتحوّل إلى معارك ومراشقات وتصفية حسابات بين الحزب الحاكم والحزب المنسحب من الحكومة وأحزاب ” المعارضة… “، وهو ما زاد من تعتيم القضية وإفراغها من محتواها وأوشامها الثاوية ، وإبعادها من جوهر الحقيقة التي يطمح المؤرخ أن يظفر بها ، أو يضعها على الأقل تحت مجهر التحقيق والمماحكة .
وبعد ، فإذا كانت انتفاضات الربيع العربي قد أنعشت أمل مؤرخ تاريخ الزمن الراهن أن يصبح -على غرار نظيره في أوروبا وأمريكا – مؤرخا” تحت الطلب ” لتحليل ما يجري من أحداث ومتغيرات ، ويصوغ إجابات لتنبؤات مستقبلية علمية ومدروسة تكون لصالح المجتمع ، وتتعاضد تحليلاته مع جهود المجتمع المدني والنخب الفكرية لخلق فرص الاستقرار والتنمية ، خاصة بعد أن ارتقع إيقاع سرعة رياح التغيير ، فالأكيد أن عقارب هذا الأمل ما فتئت تنتكص للوراء ، وشعاعه يتوارى نحو المغيب. يحدث هذا في الوقت الذي اقتنع الغرب بجدوى مهمة مؤرخ تاريخ الزمن الراهن ووظيفته في الإرهاص والتنبؤ والاستباق في فهم مجريات الأمور وجسّ نبض التحولات الفجائية واستنباط خيوط المستقبل ، مما جعل مسؤوليه يحدثون تحت ضغط الحاجة والمصلحة الوطنية وظيفــة ” المؤرخ- الخبير “، ويضعون طوع يديه ما يحتاج إليه من حرية فكرية وآليات لكشف المضمر في الأرشيفات الوطنية بغية الكشف عن الشحنات الحقيقية التي تختزنها الأحداث التاريخية، مع امتياز السبق لمعرفة الخبر، واستثماره استثمارا علميا لكتابة تاريخ جدير بالاحترام. أما نحن فلا زلنا نناقش في البرلمان حقّ المواطن في الحصول على المعلومة وما إذا كان في ذلك جدوى!
فضيحة دانيال وصمة عار علي جبين شعب٠توجب طرح سؤال هل فعلا تتحرر العرب من الإستعمار؟
ألسلام عليكم
أثارني مقال الدكتور إبراهيم لأنه نفض الغبار عن إشكالية معقدة، كثيرا ما تسكت عنها مجتمعاتنا وكذلك المؤرخون . أحيي في الدكتور إبراهيم الذي سبق أن استمعت إلى محاضرته بطرابلس حول المسكوت عنه في التاريخ ، لكن لاحظت نزعة تشاؤمية يلمسها قارء هذا المقال الذي يثبط عزيمة أي مؤرخ يقترب منه ، عكس ما بشرنا به . في محاضرته السالفة الذكر أو من خلال كتبه التي أشار فيها إلى أن التاريخ المسكوت عنه سيصبح تاريخا مباحا . أشكر هذا الموقع على إتاحته فرصة الاطلاع والاستفادة,