موضوع الخلاف حول مدلول الهيللة، من المواضيع الهامة، التي قلما انتبه إليها الباحثون، وأذكر أن المرحوم محمد حجي كان من السباقين إلى الاهتمام بهذا الموضوع، وكان يتحدث عنه في سياق خاص، بحكم اشتغاله على الحركة الفكرية أولا، ثم بحكم اهتمامه بالتصوف ورجاله. وقد أجهدنا أنفسنا آنذاك في فهم جوهر الخلاف، لكننا قصرنا عن الفهم، لقصر باعنا في تلك الفترة التي كنا نخطو فيها خطواتنا الأولى في البحث. وهذا المقال لبى تلك الحاجة القديمة إلى فهم هذا المشكل، لأن الأستاذ بوشنتوف، وظف كل كفاءاته المعرفية، وما راكمه من قراءات في هذا الموضوع ليقربنا من طبيعة وجوهر هذا الخلاف على المستوى المعرفي أولا، ثم السياق والظرفية ثانيا.
قد يتعجب القارئ، كيف أن علماء المغرب في هذه الفترة، التي اتسمت ببعض الجمود الفكري، والركون إلى التقليد ، كان لهم هذا الإسهام في النقاش في قضايا بهذا العمق، وما يمكن اعتباره ترفا فكريا آنذاك. بل وأن يصل الأمر إلى اتساع دائرة الاهتمام بالموضوع لتشمل السلطان نفسه، ويستدعي الشيخ الهبطي إلى فاس لمناظرة خصومه. لقد أخذ هذا الموضوع باهتمامي أيضا، وكان انشغالي أساسا على دلالاته السياسية، في إطار سعي محمد الشيخ السعدي إلى كبح جماح العلماء والصوفية، ولولا هذا التدخل السياسي ما كان لهذه القضية التي كانت نقاشا بين فئة محدودة من العلماء أن يصبح قضية عامة، تردد صداها في مصادر الفترة.
إن قراءة هذا المقال تتطلب شيئا من الصبر، فالمادة دسمة، والمعلومات مكثفة، ولكن النتيجة حتما ممتعة.
عثمان المنصوري
يكشف الأستاذ لطفي بوشنتوف النقاب عن وجه من أوجه الصراع المجتمعي بالمغرب .وتحديدا بين الطبقة العلمية و التي يمثل طرفها كل من الشيخ الهبطي من جهة و الفقيه اليستيني من جهة أخرى . انطلق هذا الصراع في بدايته على شكل مطارحة علمية كلامية لتنتهي بمناظرة و محاكمة ثم امتحان . ورغم أن موضوع الخلاف تمحور حول كلمة الأخلاص ومدلولها اللغوي و الشرعي خاصة بالنسبة للطرف الأول من الكلمة المنعوث بطرف النفي “لا اله” فان المشكل سيتطور الى ما هو أكبر من مجرد سجال علمي . حيث قدم لنا الأستاذ صورة عن توظيف السلطة السياسية للصراع بين بعض النخب من فئات المجتمع لخلق توازنات محددة وفق ما يخدم مشروعها السياسي كما يفتح المقال الباب أمام جملة من الأسئلة التي لازال البحث التاريخي لم يوفها حقها من التمحيص و تحتاج الى استنطاق جملة من المصادر التاريخية من ذلك مثلا – ما هو حدود النفوذ الذي كان يتمتع به صوفية العهد السعدي ومدى تمكنهم من امتلاك سلطة روحية تخول لهم منافسة السلطة الرسمية لسلطة الحاكم ؟ – هل الصورة المقدمة عن الجدل العلمي العلمي بين الهبطي و اليستيني لا تعدو أن تكون من قبيل صراع الأقران أم أنه صراع بين طبقتين من المجتمع تحكم كل فئة منهما أدبيات معينة كما تتأثر بالتجدبات السياسية الحاصلة في زمانها ؟.- هل الحمولة العقدية التي تحتويها كلمة الأخلاص موضوع المناظرة هي السبب في تأجيج الخلاف بين الطرفين باعتبار أن الخطأفي هذه الكلمة يؤدي الى التكفير ومن تم الى استباحة الدم أم أن التوظيف السياسي للمناظرة هو الذي أكسبهاتلك الحدة ؟ – هل المناظرة تمثل صراع بين حقول معرفية و علمية ممثلة في علم المنطق و الكلام المغرقين في النظر الفلسفي و التفكير العقلي و بين علم الفقه المبني على ظواهر النصوص ؟- وختاما فان المقال يفتح أفاق السؤال حول موضوع الكرامة ومدى حضورها كعنصر مرجح لكفة أحد الطرفين عن الأخر ؟
كعادته دائما، عودنا الأستاذ الفاضل لطفي بوشنتوف على اقتحام مواضيع جديدة ناذرة الدراسة، وخصوصا حينما يتعلق الأمر ببعض القضايا ذات الأهمية بمكان، حيث يختص الأستاذ بالحديث عن فئة معينة داخل المجتمع تشح المصادر في تناولها، نخص حديتنا هنا حول الفئة العالمة؛ من علماء وفقهاء ومتصوفة وغيرهم.
فالمقال المدروس ذو أهمية كبرى لما يحمل في سطوره من معطيات تاريخية غابرة بين المصادر ذات الصلة، فالأستاذ حاول جمع شتات ما تفرق في المصادر ليعطي مقال ذو حمولة علمية على اعتبار ما تم توضيفه من اقتباسات وكذا المنهج المعتمد في الدراسة، ولا ننسى أن أطروحته كانت في هذا الإتجاه، فكل ذلك، بالإضافة إلى ما تراكم له من تجارب وخبرات جعلته يفتح قضية الهيللة، التي سبق أن تطرق لها الأستاذ محمد حجي في كتابه الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين لكن من وجهة مغاييرة، فلقد أتارث هذه القضية جدلا شرعيا وسياسيا سواء بين السلطة العلمية فيما بينها في المرحلة الأولى، أو بين السلطتين العلمية والسياسية كمرحلة ثانية، فيعد تفسير محمد الخروبي لكلمة “لا إلاه إلا الله” مصدر نشوء الخلاف الفقهي بين العالم عبد الله الهبطي و الفقيه محمد اليستيني، هذا الخلاف الذي استفحل فيه القيل والقال إلا أن وصل صداه إلى السلطان محمد الشيخ السعدي، بحيث أن السلطان قد جنح في بداية التجاذب الفقهي إلى صف الفقيه محمد اليستيني في المناظرة التي جرت بين الأطراف في فاس أي السلطان والعالمان معا، فانحياز السلطان لم يكن اعتباطيا وإنما لحاجة في نفسه، لما للقضية من مركزية بالنسبة للمخزن في هذه الفترة حيث أننا نتحدث عن البدايات الأولى لتوطيد الحكم بالنسبة للدولة السعدية خلال القرن السادس عشر.
وأنا أقرأ مقال راودتني العديد من التساؤلات حول هذه القضية، غابت أثناء نقاش الأستاذ ؛ لماذا لم يفعل السلطان محمد الشيخ بالهبطي ما فعله بالونشريسي والزقاق وحرزوز وبذلك يستأصل الخلاف من جذوره على اعتبار أن عملية اغتيال العلماء والفقهاء ليست بمسألة جديدة في هذه الفترة، وخصوصا أن هؤلاء العلماء الثلاثة كانوا من نفس مكانة الهبطي أو أكثر؟ فإذا استثنينا ابن عسكر لماذا لم تستفض الكتابات المعايشة للأحداث إلى هذا الجدل الفقهي ، بعيدا عن مسألة الشيخ وتلميذه وعن بعض الإشارات العابرة هل ذلك كان وفق إرادة سياسية لم تسمح يتناول مثل هذه القضايا أم المسألة متعلقة بحياد المؤلفين واتخاذ المسافة في هذه القضية؟ أريد كذلك أن أسائل الأستاذ هنا لماذا لم يتجرأ اليوسي بدخوله في الموضوع ويحسم القضية لصالح الهبطي، ولما لم ينصح السلطان وبين مواطن الإختلال في فهمه للقضية وخصوصا إذا علمنا أن الموضوع تزامن ومسألة امتحان الزوايا.
وفي الأخير أود أن أتقدم بأسمى عبارات الشكر والإحترام لسادة الأساتذة الساهرين على هذه الجمعية لما تقدمه من وضوح في الصورة حول ما جد من منشورات للمؤرخين ومن مقالات، التي من شأنها ستفيد باحثي الأجيال في تناول مواضيعهم من جهة، وقد تكون سببا لاقتحام مواضيع جديدة من جهة ثانية، فمهما قدمناه من شكر فالجمعية تحقق أهدافها العلمية التي سطرتها في بداياتها الأولى من خلال تقديمها لمثل هذه البادرة لفائدة الباحثين الجدد .
تحية طيبة، وبعد:
اعتبارا لكون المتدخلين في التعاليق السابقة، عرّجوا على ذكر السياق العام الذي أتى فيه هذا المقال، والموضوع الذي يعالجه، واهتمامات الباحثين الآخرين به، كما هو مبين في النص بشكل آخر.
أردت بدوري أن أدلو ببعض الإشارات المقتضبة حول ما جاء في هذا الموضوع، لكن من وجهة نظر سوسيولوجية وأنثروبولوجية. إذ أثار انتباهي بشدة، كثرة العبارات المتقابلة الموجودة في هذا النص، والتي تنقل لنا حجم التعارض الموجود كذلك في الفترة التي يتحدث عنها، وكمثال؛ أسرد العبارات التالية:
حاضرة/بادية، مفتي/فقيه، العلوم العقلية/ الفقه، السنّة/ البدعة، الطّاعة/ العصيان، الشريعة/ التصوف، المعرفة/ الجهل …إلخ. وهي في الحقيقة تحمل عدة دلالات بغض النظر عن موضوع المقال، والذي يركز على الخلاف الذي أثير حول قضية “الهيللة” بين الفقيه الهبطي واليستيني. فالمعروف عندنا أن دخول السعديين لمدينة فاس لم يكن بالأمر الهيّن، والعلاقات التي حاولوا ربطها مع أهل هذه الحاضرة اتسمت بالتجاذب تارة والنفور تارة أخرى. الشيء الذي سمح بظهور مثل هذه التعارضات في بنية المجتمع الذي عايش فترة هؤلاء السلاطين. وبالتالي محاولة إضفاء المشروعية على حكمهم من خلال استمالة فئة العلماء إلى صفوفهم، بحكم القيمة التي كانت لهؤلاء في الأوساط الشعبية، وتأثيرهم المباشر في الحياة الاجتماعية للناس بالمدن والبوادي.
إن هذا التعارض يظهر في كل مراحل تاريخ المغرب، كما نجده عند الكثير من المؤرخين. وهو الذي من خلاله يمكن لنا أن نفهم سمات المجتمع المغربي في الفترة الوسيطية وكيفية تشكل النخب فيها وعلاقات السلطة والتراتب الاجتماعي، كما يعزز فهمنا لحجم القدرة التي كانت فئة المتصوفة والعلماء تلعبها في مجتمع اتسم في غالبيته بالتديّن والعمل بالشرائع الدينية أكثر من الوضعية. إضافة إلى ما احتفظت به ذاكرة المغاربة من ترسّبات الديانات الوثنية السابقة، التي تؤمن بالكرامات وقدرة الفرد على صنع الخوارق، والتحكم في الطبيعة والمجال والناس. وكلها عوامل ساهمت قبل كل شيء في إضفاء المشروعية على ما كان يدور من سجال بين طرفي النزاع في القضية التي يطرحها الأستاذ بوشنتوف في مقاله، قبل أن تكون قضية فكر، وإشكال عقائدي أو فقهي معين. وهذا ما يصطلح لدى علماء الأنثربولوجية بالبنية الخفية للصراع.
كما أن هذه النقطة بالضبط هي التي تسمح دائما للسلاطين بشرعنة تدخلاتهم في حق العلماء والفقهاء بدريعة التعارضات التي أدرجناها سابقا، فيتم بذلك نزع شرعية الخطاب من أحد الأطراف التي لم تعد السلطة المركزية بحاجة إليها، بدريعة الشعبوية والغلوّ في التصوف والشعودة، أو قلة الدراية بالعلوم العقلية والشرعية، التي تمكن من اعتلاء مناصب كانت تؤهل العارفين لخوض غمار السلطة والقرار. أو عندما يتحسس السلطان وحاشيته، مكر هؤلاء و قدرتهم على حشد ثقة الناس بهم، ما قد يعود عليهم بالوبال (الانقلابات العسكرية بلغة الحاضر).
إن واقعة استيلاء السلطان محمد الشيخ السعدي على مدينة فاس، لأبرز مبرر للحديث عن مثل هذه التعارضات التي كان من الضروري الحفاظ عليها في وقت لازمت السلطة الدنيوية مقابلتها الدينية، في مجتمع ظل إلى حد اليوم مبنيا على أسس ثقافية، تستمد جذورها من قاعدة التاريخ، وتأخذ أشكالا خارجية أخرى كلّما تقدم بها الزمن نحو الأمام. وهو ما استغلته فرنسا في وقت لاحق، حينما استعمرت المغرب، وحاولت بناء تصور جديد/قديم لبنية المغرب المتناقضة، النافع/ والمتسيب. كما أن له دلالة سيكولوجية تشرح الذهنية المترسخة في ذاكرة المغاربة، بين مؤسسة المخزن التقليدية ومفاهيم الدولة المدنية الحديثة. وجدليات الأصالة والمعاصرة، والحداثة والتقليد التي لازالت المغاربة ضحاياها إلى اليوم.
موضوع الخلاف حول مدلول الهيللة، من المواضيع الهامة، التي قلما انتبه إليها الباحثون، وأذكر أن المرحوم محمد حجي كان من السباقين إلى الاهتمام بهذا الموضوع، وكان يتحدث عنه في سياق خاص، بحكم اشتغاله على الحركة الفكرية أولا، ثم بحكم اهتمامه بالتصوف ورجاله. وقد أجهدنا أنفسنا آنذاك في فهم جوهر الخلاف، لكننا قصرنا عن الفهم، لقصر باعنا في تلك الفترة التي كنا نخطو فيها خطواتنا الأولى في البحث. وهذا المقال لبى تلك الحاجة القديمة إلى فهم هذا المشكل، لأن الأستاذ بوشنتوف، وظف كل كفاءاته المعرفية، وما راكمه من قراءات في هذا الموضوع ليقربنا من طبيعة وجوهر هذا الخلاف على المستوى المعرفي أولا، ثم السياق والظرفية ثانيا.
قد يتعجب القارئ، كيف أن علماء المغرب في هذه الفترة، التي اتسمت ببعض الجمود الفكري، والركون إلى التقليد ، كان لهم هذا الإسهام في النقاش في قضايا بهذا العمق، وما يمكن اعتباره ترفا فكريا آنذاك. بل وأن يصل الأمر إلى اتساع دائرة الاهتمام بالموضوع لتشمل السلطان نفسه، ويستدعي الشيخ الهبطي إلى فاس لمناظرة خصومه. لقد أخذ هذا الموضوع باهتمامي أيضا، وكان انشغالي أساسا على دلالاته السياسية، في إطار سعي محمد الشيخ السعدي إلى كبح جماح العلماء والصوفية، ولولا هذا التدخل السياسي ما كان لهذه القضية التي كانت نقاشا بين فئة محدودة من العلماء أن يصبح قضية عامة، تردد صداها في مصادر الفترة.
إن قراءة هذا المقال تتطلب شيئا من الصبر، فالمادة دسمة، والمعلومات مكثفة، ولكن النتيجة حتما ممتعة.
عثمان المنصوري
يكشف الأستاذ لطفي بوشنتوف النقاب عن وجه من أوجه الصراع المجتمعي بالمغرب .وتحديدا بين الطبقة العلمية و التي يمثل طرفها كل من الشيخ الهبطي من جهة و الفقيه اليستيني من جهة أخرى . انطلق هذا الصراع في بدايته على شكل مطارحة علمية كلامية لتنتهي بمناظرة و محاكمة ثم امتحان . ورغم أن موضوع الخلاف تمحور حول كلمة الأخلاص ومدلولها اللغوي و الشرعي خاصة بالنسبة للطرف الأول من الكلمة المنعوث بطرف النفي “لا اله” فان المشكل سيتطور الى ما هو أكبر من مجرد سجال علمي . حيث قدم لنا الأستاذ صورة عن توظيف السلطة السياسية للصراع بين بعض النخب من فئات المجتمع لخلق توازنات محددة وفق ما يخدم مشروعها السياسي كما يفتح المقال الباب أمام جملة من الأسئلة التي لازال البحث التاريخي لم يوفها حقها من التمحيص و تحتاج الى استنطاق جملة من المصادر التاريخية من ذلك مثلا – ما هو حدود النفوذ الذي كان يتمتع به صوفية العهد السعدي ومدى تمكنهم من امتلاك سلطة روحية تخول لهم منافسة السلطة الرسمية لسلطة الحاكم ؟ – هل الصورة المقدمة عن الجدل العلمي العلمي بين الهبطي و اليستيني لا تعدو أن تكون من قبيل صراع الأقران أم أنه صراع بين طبقتين من المجتمع تحكم كل فئة منهما أدبيات معينة كما تتأثر بالتجدبات السياسية الحاصلة في زمانها ؟.- هل الحمولة العقدية التي تحتويها كلمة الأخلاص موضوع المناظرة هي السبب في تأجيج الخلاف بين الطرفين باعتبار أن الخطأفي هذه الكلمة يؤدي الى التكفير ومن تم الى استباحة الدم أم أن التوظيف السياسي للمناظرة هو الذي أكسبهاتلك الحدة ؟ – هل المناظرة تمثل صراع بين حقول معرفية و علمية ممثلة في علم المنطق و الكلام المغرقين في النظر الفلسفي و التفكير العقلي و بين علم الفقه المبني على ظواهر النصوص ؟- وختاما فان المقال يفتح أفاق السؤال حول موضوع الكرامة ومدى حضورها كعنصر مرجح لكفة أحد الطرفين عن الأخر ؟
كعادته دائما، عودنا الأستاذ الفاضل لطفي بوشنتوف على اقتحام مواضيع جديدة ناذرة الدراسة، وخصوصا حينما يتعلق الأمر ببعض القضايا ذات الأهمية بمكان، حيث يختص الأستاذ بالحديث عن فئة معينة داخل المجتمع تشح المصادر في تناولها، نخص حديتنا هنا حول الفئة العالمة؛ من علماء وفقهاء ومتصوفة وغيرهم.
فالمقال المدروس ذو أهمية كبرى لما يحمل في سطوره من معطيات تاريخية غابرة بين المصادر ذات الصلة، فالأستاذ حاول جمع شتات ما تفرق في المصادر ليعطي مقال ذو حمولة علمية على اعتبار ما تم توضيفه من اقتباسات وكذا المنهج المعتمد في الدراسة، ولا ننسى أن أطروحته كانت في هذا الإتجاه، فكل ذلك، بالإضافة إلى ما تراكم له من تجارب وخبرات جعلته يفتح قضية الهيللة، التي سبق أن تطرق لها الأستاذ محمد حجي في كتابه الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين لكن من وجهة مغاييرة، فلقد أتارث هذه القضية جدلا شرعيا وسياسيا سواء بين السلطة العلمية فيما بينها في المرحلة الأولى، أو بين السلطتين العلمية والسياسية كمرحلة ثانية، فيعد تفسير محمد الخروبي لكلمة “لا إلاه إلا الله” مصدر نشوء الخلاف الفقهي بين العالم عبد الله الهبطي و الفقيه محمد اليستيني، هذا الخلاف الذي استفحل فيه القيل والقال إلا أن وصل صداه إلى السلطان محمد الشيخ السعدي، بحيث أن السلطان قد جنح في بداية التجاذب الفقهي إلى صف الفقيه محمد اليستيني في المناظرة التي جرت بين الأطراف في فاس أي السلطان والعالمان معا، فانحياز السلطان لم يكن اعتباطيا وإنما لحاجة في نفسه، لما للقضية من مركزية بالنسبة للمخزن في هذه الفترة حيث أننا نتحدث عن البدايات الأولى لتوطيد الحكم بالنسبة للدولة السعدية خلال القرن السادس عشر.
وأنا أقرأ مقال راودتني العديد من التساؤلات حول هذه القضية، غابت أثناء نقاش الأستاذ ؛ لماذا لم يفعل السلطان محمد الشيخ بالهبطي ما فعله بالونشريسي والزقاق وحرزوز وبذلك يستأصل الخلاف من جذوره على اعتبار أن عملية اغتيال العلماء والفقهاء ليست بمسألة جديدة في هذه الفترة، وخصوصا أن هؤلاء العلماء الثلاثة كانوا من نفس مكانة الهبطي أو أكثر؟ فإذا استثنينا ابن عسكر لماذا لم تستفض الكتابات المعايشة للأحداث إلى هذا الجدل الفقهي ، بعيدا عن مسألة الشيخ وتلميذه وعن بعض الإشارات العابرة هل ذلك كان وفق إرادة سياسية لم تسمح يتناول مثل هذه القضايا أم المسألة متعلقة بحياد المؤلفين واتخاذ المسافة في هذه القضية؟ أريد كذلك أن أسائل الأستاذ هنا لماذا لم يتجرأ اليوسي بدخوله في الموضوع ويحسم القضية لصالح الهبطي، ولما لم ينصح السلطان وبين مواطن الإختلال في فهمه للقضية وخصوصا إذا علمنا أن الموضوع تزامن ومسألة امتحان الزوايا.
وفي الأخير أود أن أتقدم بأسمى عبارات الشكر والإحترام لسادة الأساتذة الساهرين على هذه الجمعية لما تقدمه من وضوح في الصورة حول ما جد من منشورات للمؤرخين ومن مقالات، التي من شأنها ستفيد باحثي الأجيال في تناول مواضيعهم من جهة، وقد تكون سببا لاقتحام مواضيع جديدة من جهة ثانية، فمهما قدمناه من شكر فالجمعية تحقق أهدافها العلمية التي سطرتها في بداياتها الأولى من خلال تقديمها لمثل هذه البادرة لفائدة الباحثين الجدد .
تحية طيبة، وبعد:
اعتبارا لكون المتدخلين في التعاليق السابقة، عرّجوا على ذكر السياق العام الذي أتى فيه هذا المقال، والموضوع الذي يعالجه، واهتمامات الباحثين الآخرين به، كما هو مبين في النص بشكل آخر.
أردت بدوري أن أدلو ببعض الإشارات المقتضبة حول ما جاء في هذا الموضوع، لكن من وجهة نظر سوسيولوجية وأنثروبولوجية. إذ أثار انتباهي بشدة، كثرة العبارات المتقابلة الموجودة في هذا النص، والتي تنقل لنا حجم التعارض الموجود كذلك في الفترة التي يتحدث عنها، وكمثال؛ أسرد العبارات التالية:
حاضرة/بادية، مفتي/فقيه، العلوم العقلية/ الفقه، السنّة/ البدعة، الطّاعة/ العصيان، الشريعة/ التصوف، المعرفة/ الجهل …إلخ. وهي في الحقيقة تحمل عدة دلالات بغض النظر عن موضوع المقال، والذي يركز على الخلاف الذي أثير حول قضية “الهيللة” بين الفقيه الهبطي واليستيني. فالمعروف عندنا أن دخول السعديين لمدينة فاس لم يكن بالأمر الهيّن، والعلاقات التي حاولوا ربطها مع أهل هذه الحاضرة اتسمت بالتجاذب تارة والنفور تارة أخرى. الشيء الذي سمح بظهور مثل هذه التعارضات في بنية المجتمع الذي عايش فترة هؤلاء السلاطين. وبالتالي محاولة إضفاء المشروعية على حكمهم من خلال استمالة فئة العلماء إلى صفوفهم، بحكم القيمة التي كانت لهؤلاء في الأوساط الشعبية، وتأثيرهم المباشر في الحياة الاجتماعية للناس بالمدن والبوادي.
إن هذا التعارض يظهر في كل مراحل تاريخ المغرب، كما نجده عند الكثير من المؤرخين. وهو الذي من خلاله يمكن لنا أن نفهم سمات المجتمع المغربي في الفترة الوسيطية وكيفية تشكل النخب فيها وعلاقات السلطة والتراتب الاجتماعي، كما يعزز فهمنا لحجم القدرة التي كانت فئة المتصوفة والعلماء تلعبها في مجتمع اتسم في غالبيته بالتديّن والعمل بالشرائع الدينية أكثر من الوضعية. إضافة إلى ما احتفظت به ذاكرة المغاربة من ترسّبات الديانات الوثنية السابقة، التي تؤمن بالكرامات وقدرة الفرد على صنع الخوارق، والتحكم في الطبيعة والمجال والناس. وكلها عوامل ساهمت قبل كل شيء في إضفاء المشروعية على ما كان يدور من سجال بين طرفي النزاع في القضية التي يطرحها الأستاذ بوشنتوف في مقاله، قبل أن تكون قضية فكر، وإشكال عقائدي أو فقهي معين. وهذا ما يصطلح لدى علماء الأنثربولوجية بالبنية الخفية للصراع.
كما أن هذه النقطة بالضبط هي التي تسمح دائما للسلاطين بشرعنة تدخلاتهم في حق العلماء والفقهاء بدريعة التعارضات التي أدرجناها سابقا، فيتم بذلك نزع شرعية الخطاب من أحد الأطراف التي لم تعد السلطة المركزية بحاجة إليها، بدريعة الشعبوية والغلوّ في التصوف والشعودة، أو قلة الدراية بالعلوم العقلية والشرعية، التي تمكن من اعتلاء مناصب كانت تؤهل العارفين لخوض غمار السلطة والقرار. أو عندما يتحسس السلطان وحاشيته، مكر هؤلاء و قدرتهم على حشد ثقة الناس بهم، ما قد يعود عليهم بالوبال (الانقلابات العسكرية بلغة الحاضر).
إن واقعة استيلاء السلطان محمد الشيخ السعدي على مدينة فاس، لأبرز مبرر للحديث عن مثل هذه التعارضات التي كان من الضروري الحفاظ عليها في وقت لازمت السلطة الدنيوية مقابلتها الدينية، في مجتمع ظل إلى حد اليوم مبنيا على أسس ثقافية، تستمد جذورها من قاعدة التاريخ، وتأخذ أشكالا خارجية أخرى كلّما تقدم بها الزمن نحو الأمام. وهو ما استغلته فرنسا في وقت لاحق، حينما استعمرت المغرب، وحاولت بناء تصور جديد/قديم لبنية المغرب المتناقضة، النافع/ والمتسيب. كما أن له دلالة سيكولوجية تشرح الذهنية المترسخة في ذاكرة المغاربة، بين مؤسسة المخزن التقليدية ومفاهيم الدولة المدنية الحديثة. وجدليات الأصالة والمعاصرة، والحداثة والتقليد التي لازالت المغاربة ضحاياها إلى اليوم.