أنت هنا: الرئيسية / مقال من الأرشيف: الأستاذ محمد بوكبوط، سلطة التاريخ ورهان حماية الذاكرة الجماعية.
مقال من الأرشيف: الأستاذ محمد بوكبوط، سلطة التاريخ ورهان حماية الذاكرة الجماعية.
سلطة التاريخ ورهان حماية الذاكرة الجماعية
د. محمد بوكبوط.
كلية الآداب سايس فاس.
فجأة تأكد الجميع من خطورة المعرفة التاريخية وحساسية التعاطي مع الذاكرة الجماعية، وصار الكل يخوض بمعرفة أو بدونها في نبش أحداث التاريخ القريب واستحضار محطاته ومنعطفاته، بشكل أثار الزوابع وينبيء بما يمكن أن تؤول إليه الأمور في مستقبل الأيام من دس وتزييف وتحريف لتاريخ الأمة وتجن على ذاكرتها الجماعية إذا لم يتم تدارك الأمور.
ومعلوم أن مرحلة الدس والتزييف التي قد تشهدها كتابة وتدوين وقائع التاريخ تأتي مكملة لمرحلة طمس ذاكرة الأمة وتمييع وعيها بماضيها القريب منه والبعيد، بفرض رؤية معينة لذلك التاريخ واستحضار جوانب محددة من تلك الذاكرة بشتى الأساليب البيداغوجية منها والديماغوجية.
والحقيقة أننا لانروم في هذ المقام الخوض في الخلفيات والدوافع الكامنة وراء مثل هذه الممارسات، بقدر ما نسعى إلى الإسهام في فتح النقاش – بموضوعية وتجرد بعد هدوء غبار الزوبعة الإعلامية نسبيا- حول الموضوع، بغية إثارة الإهتمام بحيوية استرجاع وعينا التاريخي وتنقيحه، وتقريب علم التاريخ من عموم المواطنين بشكل تتم فيه تنقية زوايا الذاكرة الجماعية من كثير من الشوائب التي علقت بها، لأن مواطنا جاهلا بتاريخه ومستسيغا لكل ما يسرب إليه – لفقدانه تلك المناعة التي يوفرها الوعي التاريخي إياه- لا يمكنه الإسهام إسهاما واعيا في الحياة العامة لبلده، بل يقع ضحية سهلة للقوى التي لا تتردد في إثارة البلبلة كلما أحست بانعطافة تهدد مصالحها، والتي أثبتت تجارب المغاربة مع التاريخ منذ ما قبل الإستعمار إلى اليوم أنها بارعة في تغيير جلدها، وبالتالي لا تتورع عن ملء الساحة ضجيجا وإثارة الغبار الكثيف للحيلولة دون رؤية واضحة لأحداث ووقائع التاريخ، مؤكدة فعلا أن الذاكرة الجماعية مجال آخر للصراع وأن المعرفة التاريخية سلاح ليس أقل مضاء من الأسلحة الأخرى.
ولطالما نبه بعض الباحثين والغيورين على تاريخ الأمة وذاكرتها إلى ضرورة تدوين وقائع تاريخ عقد الخمسينات من القرن العشرين، باعتباره المرحلة الحساسة المتحكمة في مفاتيح فهم واقع بلادنا الآن، معبرين عن دهشتهم من عزوف العديد من الفاعلين والمساهمين المباشرين في صنع كثير من الأحداث الحاسمة عن تخليد شهاداتهم للتاريخ وللحقيقة، فحق مثلا لهيئة تحرير مجلة “الملفات المغربية الكبرى” في عددها الأول (1996) بصدد نشرها لمحاضر إيكس لي بانAix les Bains أن تسجل بمرارة: “لفت نظرنا أن الأجانب الذين شاركوا بطريقة مباشرة أو حتى بطريقة غير مباشرة قد احتفظوا بذكرياتهم عن هذه الفترة الحاسمة من تاريخ المغرب، فأصدروا مذكرات وكتبا عن الموضوع، ما عدا المغاربة ( المشاركين في المفاوضات) الذين لم نقرأ لهم مذكرات أو كتبا توقف وتحصر تعاملها في موضوع أيكس لي بان“، ما عدا استثناءات قليلة أشارت إلى الموضوع عرضا.
ينطبق هذا الواقع على كل ما يمت لتاريخ الفترة المشار إليها بصلة، ويعزى اقتصارنا على هذه المرحلة إلى ارتباط الوقائع المثارة إعلاميا وسياسيا بها، إذ يصطدم المؤرخون بصفحة ضبابية يلفها حجاب سميك من الغموض إن لم نقل إنها مقفلة بإحكام، تعز فيها المعطيات الكفيلة بمقاربة علمية لوقائعها، ناهيك عن جهل يكاد يكون مطبقا لدى الشباب – حتى المتعلم منه – لأحداث منتصف القرن إياه، الذي لا يفصله عنه زمنيا أكثر من عقد أو عقدين، ومع ذلك يبدو غارقا في المجهول، مما يفرض التساؤل عن دوافع وأسباب كل ذلك الصمت واللامبالاة اللذين استفاق منهما الجميع عند أول هزة.
أكيد أن مجموعة من العوامل تضافرت للوصول إلى ما نحن فيه من ضعف وتخبط وفقدان الثبات تجاه سطوة تاريخنا القريب، ورهبة من التعاطي مع ذاكرتنا الجماعية، نقتصر على ذكر الآتية منها:
1- انشغال النخبة المتعلمة في أواخر عهد الإستعمار بالنضال الوطني واستحضار التاريخ البعيد لخدمة أهداف الحركة الوطنية في التحرر، بالتركيز على بعث أمجاد الأمة لبث روح الإعتزاز بالذات واستثارة النخوة ضدا على التدجين الذي عمل الإستعمار على غرسه في ذهن وسلوك الإنسان المغربي؛ ثم إن نفس النخبة التي ساهمت في صنع هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر انغمست في العمل السياسي بعد الإستقلال فانشغلت عن التدوين والكتابة. ومع ذلك لا مناص من الإقرار بأن لها نصيبها من مسؤولية السكوت عن أحداث التاريخ القريب الذي عاشت فصوله وخباياه. ولعل قرار بعض من طال بهم العمر بفك عقدة ألسنتهم مؤخرا، يقوم دليلا على إدراكهم لثقل مسؤولية واجب الذاكرة أمام النقاش العام الذي بات يدور حول الموضوع، فبدأت تتناسل الشهادات والروايات حول أحداث ووقائع الفترة المعنية، بشكل يمهد الطريق لعمل المؤرخ الذي لا يمكنه العمل دون توفر مجموعة من الضوابط كثيرا ما يتم إغفالها في ميدان العمل الصحفي.
2- “هجرة” رواد المدرسة التاريخية لمرحلة الإستقلال من الأكاديميين الأوائل للتاريخ المعاصر القريب واستقرارهم المريح في دراسة القرن التاسع عشر، حيث اشتهرت شعبة التاريخ في أول كلية للآداب بالمغرب بالتخصص في الفترة الأخيرة دون سواها. وعلى الرغم من أهمية تناول أي مرحلة من مراحل التاريخ الوطني في بناء المعرفة التاريخية، فإن هذا التوجه فوت الفرصة في اعتقادنا على توجيه أجيال من الشباب الباحثين للنبش في تاريخ المرحلة الحرجة والحاسمة إياها، مرحلة منتصف القرن العشرين، رغم كل الأعذار التي يمكن التماسها والتي لا حاجة إلى الخوض فيها.
3 – عدم تدوين رجال المقاومة وجيش التحرير لمذكراتهم وشهاداتهم، مما شكل خسارة فظيعة لذاكرة الأمة وتاريخها. غير أنه يجب استحضار حقائق لا يجب إغفالها في هذا الباب، منها أن الأغلبية الساحقة منهم كانوا أميين وبالتالي لم يكن ليتيسر لهم القيام بعملية التدوين. وهنا يتبين جانب من سلبيات عدم الإهتمام الأكاديمي المبكر بهذه المرحلة، حيث كان بإمكان الباحثين تحفيز العديد منهم على رواية شهاداتهم أو إظهار بعض الوثائق التي بقيت في أيدي بعضهم قبل اندثارها. كما أن أغلب أطر المقاومة وجيش التحرير شغلت بعد الإستقلال وظائف رسمية وفي حقول حساسة لم تكن تسمح لها بالخوض في مسائل قد تجر عليها متاعب هي في غنى عنها، خصوصا وأنها نالت في اعتقادها ما يغنيها عن النبش في الماضي.
ولعل تناسل بعض شهادات المقاومين في الفترة الأخيرة يسهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه خدمة للحقيقة والتاريخ وصيانة لذاكرة الأمة، وهو ما عبر عنه الغالي العراقي في كتابه “ذاكرة نضال وجهاد” لدى حديثه عن دوافع البوح بشهاداته آملا ” أن تكون خطوتي هاته حافزا لغيري ممن عاشوا وعايشوا الحقبة الجهادية عن قناعة والتزام نضالي يفرض الجهر بالحق والحقيقة.. وحث البقية الباقية من رجالات المقاومة وأعضاء جيش التحرير على الإفصاح عما يخالج صدورهم وما تدخره ذاكرتهم”.
وفي هذا الصدد ورغم وجود مؤسسات كان بإمكانها الإسهام في توثيق وتدوين هذه الشهادات، ونعني المندوبية السامية لقدماء المقاومين والمجلس الوطني، فإنه يلاحظ غياب الإهتمام الجدي بالجانب الأكاديمي لديهما مدة طويلة، لانشغالهما بالشؤون الإدارية والمالية لأسرة المقاومة وجيش التحرير. وإذا كانتا قد تداركتا الأمر بمحاولة ربط الجسور مع الجامعات بتنظيم ندوات همت مختلف جوانب موضوع المقاومة وجيش التحرير في شتى مناطق البلاد، فإن تلك الندوات غلب عليها الطابع الرسمي البروتوكولي، وإن لم تخل من فوائد بإسهام أبحاث الأساتذة في تسليط بعض الضوء على كثير من الأحداث والوقائع، لكن ذلك لم يرق إلى مستوى الإهتمام الجدي بهذه الصفحة من تاريخ الأمة، بتمكين الباحثين من الأرشيفات –إن وجدت- التي لا تزال دفينة وغير موضوعة رهن إشارة العموم، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بتحفيز المقاومين الذين لا يزالون على قيد الحياة على البوح بشهاداتهم للمؤرخين وتدوينها وتوثيقها، وكذا تخصيص إمكانيات مادية لجمع ونسخ الوثائق المتوفرة في الأرشيفات الأجنبية وغيرها من الخطوات العملية الجادة المعبرة عن إرادة صادقة في توثيق وتدوين تاريخ المقاومة وجيش التحرير.
4 – غياب الصرامة العلمية والموضوعية في تناول وقائع تاريخنا المعاصر، وركون الجميع إلى المهادنة والمحاباة وغض الطرف، ارتكازا على ما جبل عليه المغاربة من حياء وعفة أولا، وخوف مشروع من سطوة وجبروت الأجهزة التي كان يسيرها كثير ممن تهمهم أحداث تلك الفترة الحاسمة من تاريخ البلاد، دون نكران حق كتمان بعض الأسرار التي لن ترى النور إلا بالإبتعاد بمدة معقولة من الأحداث، ولعل ما نشهده هذه الإيام يبشر بمستقبل واعد في هذا الحقل.
أفضى كل ذلك في اعتقادنا إلى غياب تراكم معرفي خضع لعملية النقد والتمحيص التي هي من صميم عمل المؤرخين، ونال بالتالي “شهادة الميلاد الشرعية” التي تمنحه حق التداول كإرث رمزي في ملك الأمة، ومن ثم الحيلولة دون ضياع جزء من الذاكرة الجماعية الوطنية الذي ستكون له عواقب وخيمة على مستقبل الأجيال اللاحقة.
موجز القول إنه آن الأوان لوضع حد لما ظل الجميع يردده على مدى العقود الماضية عن ضرورة كتابة تاريخ المغرب المعاصر، والإنتقال الفعلي إلى مباشرة هذا المشروع ضمن المشاريع الأخرى الرامية إلى إيقاف تيار التدهور الذي طال شتى مجالات الحياة بالبلاد، إذ المأمول ارتكازا على الإشارات القوية لتوجه العهد الجديد في التصالح مع الذات سياسيا أن يتم كذلك التصالح مع الوعي التاريخي، بإعادة صهر معرفتنا التاريخية ومقاربتها بطريقة ديمقراطية ونشرها بشفافية ونزاهة، بعيدا عن التشنج والخلفيات المصلحية الضيقة والنظرة الأحادية لوقائع تاريخنا المشترك، لأن تدوين الأمم والشعوب لتاريخها وتلقينه لناشئتها ليس ترفا فكريا، بل هو من صميم أدوات التحكم في مصائرها سلبا أو إيجابا.
من هنا لا مراء من الإقرار بأن من واجب القوى الحية التواقة إلى التقدم والحداثة أن تهب لملء الفراغ المهول على صعيد المعرفة التاريخية والذاكرة الجماعية، كما أنه بات من أوجب واجبات النزهاء من المؤرخين التدخل، لأنه “لا مفر من ظهور دعاة واجب الذاكرة الذين يطالبون بإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، فيدخلون في مواجهة …مع أولئك الرافضين لنبش صفحات الماضي حرصا على الحفاظ على الأمر الواقع، أو خشية أن تفرز حروب الذاكرة عناصر التفرقة في المجتمع وعراقيل التقدم نحو غد أفضل. ومرة أخرى يتم الإحتكام إلى المؤرخ المتسلح بالتريث والذي يتحاشى الحكم القطعي، فيرسم لموضوع الصراع لوحة قد لا ترضي الأبطال ولا الضحايا“(ورقة الإتصال للجمعية المغربية للبحث التاريخي، عدد 13، أكتوبر 2001).
ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى واحد من أهم الموضوعات المتصلة بجوهر ما أثرناه، ويتعلق بالأمازيغية التي ترك تناولها لمن هب ودب يكتبون ما يشاءون دون وازع علمي ووطني، بينما هي نموذج لحساسية المشاكل ذات العلاقة بالوعي التاريخي والذاكرة الجماعية، وبالتالي وجود مخاطر حقيقية للإنزلاق في مقاربتها وما يترتب عليه من التشكيك في مجمل الهوية التاريخية للأمة.
فإشكالية المرحلة هي أن المجتمع المغربي يقف عند إحدى محطات تاريخه الحاسمة وما تستوجبه من مساءلة الهوية والمصير، وبديهي أن يكون التاريخ والذاكرة الجماعية رهانا سياسيا تحتدم حوله المعارك، فالديمقراطية الحقة ومتطلبات مواجهة المصير المشترك تفرض الإعتراف بذاكرة كل مجموعة كجزء من الذاكرة الجماعية دون إقصاء أو تهميش.
من هنا لامناص من الجهر بأنه من واجب المؤرخين الإسهام في النقاش الدائر وتلبية الحاجة الإجتماعية لمعرفة التاريخ وحماية الذاكرة الوطنية من التخريب، وإلا سيخلو الجو-كما هو الشأن لحد الآن- لجيوش الكتبة الخائضين في ميدان متفجر قابل لإيقاظ الفتنة إذا لم يلتزم فيه الحذر ويخضع للضوابط العلمية.
(نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، عدد 1205، بتاريخ 10 ماي 2002ن ص. 12)