الجمعة , أكتوبر 17 2025
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / ذ. عثمان المنصوري، مقاربة تاريخية لكتاب: البيعة ميثاق مستمر بين الملك والشعب للأستاذة بهيجة سيمو

ذ. عثمان المنصوري، مقاربة تاريخية لكتاب: البيعة ميثاق مستمر بين الملك والشعب للأستاذة بهيجة سيمو

البيعة ميثاق مستمر بين الملك والشعب

بهيجة سيمو

مقاربة تاريخية لعثمان المنصوري

***

أود في البداية أن أشيد بهذا العمل الهام، والإنجاز العالي القيمة، شكلا ومضمونا، وبالمجهود الكبير الذي بذل من أجل إخراجه في حلة لائقة تليق بالموضوع الهام الذي اختارته المؤلفة له.

        وبالنظر إلى محدودية الوقت المخصص لهذه المداخلة، سأتطرق إلى امتدادات موضوع البيعة في الفترة الحديثة من خلال بعض الإشارات والنماذج التي تبين أهمية موضوع البيعة، مع بعض المقارنات المستقاة من بعض المصادر الحديثة، وبعد ذلك سأتطرق بسرعة إلى أهمية الكتاب للمشتغلين في حقل التاريخ خصوصا وباقي الحقول العلمية بصفة عامة .

البيعة ميثاق مبني على حقوق وواجبات

        ليست البيعة طقسا بروتوكوليا ولا تقليدا احتفاليا، ولكنها عقد بين طرفين، يخول لهما حقوقا ويضع في أعناقهما واجبات، ومعظم البيعات تنص على شروط هذا العقد، كما جاء مثلا في ص14 من الكتاب في اقتباس من إحدى البيعات: “…حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام، وحفظ الأعراض، وتحقيق الأمن، والدفاع عن العباد والبلاد، وتحصين الثغور…” مقابل السمع والطاعة.

        للمقارنة، فإن سكان سوس بايعوا محمد بن عبد الرحمان القائم جد الأسرة السعدية على نفس الشروط تقريبا، وكان ذلك عندما تضايقوا من الوجود البرتغالي بالسواحل السوسية، ورفض البرتغاليون التفاوض معهم لعدم وجود أمير، فقصدوا الشيخ محمد بن مبارك، وعرضوا عليه مبايعتهم له، ويقوم بأمر الناس في إمضاء الحكم بينهم وجمعهم لقتال عدوهم.. أي القيام بشؤون العدل وتأمين أنفسهم ودينهم لكنه امتنع وأشار عليهم بمبايعة محمد بن عبد الرحمان القائم ( النزهة ص 41)  وبعد ذلك بعث إليه فقهاء المصامدة وشيوخ القبائل واستدعوه لتقديمه عليهم وتسليم الأمر إليه  ” قلوب متفقة وأغراض على الجهاد مجتمعة..” ص 50.

هنا إذن، تسليم له بالطاعة ومطالبة له بالأمن والحماية وحفظ الدين.

كلمة ميثاق هنا لها دلالاتها العميقة: البيعة عهد وقسم على الولاء والطاعة، ولا يحق لأي من الطرفين الإخلال به إلا بموجب شرعي، ويؤدي التفريط في شروط العقد إلى أوخم النتائج بالنسبة للطرفين.

لقد أدى بعض العلماء أعمارهم ثمنا لعهدهم ولوفائهم بالبيعة التي في عنقهم، وخير مثال يمكن أن نستشهد به هو ما حدث خلال الصراع الوطاسي السعدي، حيث تشبث ثلاثة علماء ببيعتهم للسلطان الوطاسي، ورفضوا مبايعة محمد الشيخ السعدي. وعلى الرغم من إلحاح محمد الشيخ السعدي على الونشريسي ومراسلاته المتوالية والتهديد والوعيد فقد أصر على موقفه، بأن بيعة السلطان الوطاسي في عنقه ولا يحل له خلعها إلا بموجب شرعي، وهو نفس موقف العالم الزقاق وابن حرزوز، وكلهم دفعوا حياتهم ثمنا لتشبثهم بالبيعة للسلطان الوطاسي.

وفي المقابل، فإن للسلطان الحق في معاقبة كل ناكث للبيعة، أو متخل عن شرط الطاعة والولاء، حتى يضمن الأمن والاستقرار والعدل الذي لا تستقيم الأمور إلا به. والأمثلة كثيرة على مصير الخارجين عن الطاعة والناكثين لعهد البيعة، مثلا في عهد المنصور، ثورة الناصر انتهت بمقتله والقضاء على حركته. وعلى العموم، فالبيعة عادة تحسم في مسألة تولي الحكم، وكل مبايع بعد البيعة الأولى يعتبر خارجا عن الطاعة ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما..)

هناك أمور لا تتهاون فيها الرعية، وعلى رأسها حماية بيضة الإسلام، وتوفير الأمن والاستقرار ثم العدل. فالبيعة ليست شيكا على بياض، فكما أن السلطان يعاقب ويحارب الناكثين للبيعة، فهم بدورهم لا يقبلون بإخلاله بواجبه وتخليه عن التزاماته، ولنا في التاريخ الحديث عدة أمثلة على ذلك، وأهمها موقف المغاربة من المتوكل بعد فراره من فاس وترك أهلها بدون حماية، فقد اعتبروا ذلك موجبا لخلعه ومبايعة عمه، كما جاء في رسالتهم إليه. وبالنسبة لهم فإن التجاءه إلى العدو البرتغالي الكافر، واستعانته به على المسلمين، حسم الأمر فاعتبروه زيادة على خلعه من الملك كافرا ومرتدا.

وشبيه بذلك موقف المغاربة من محمد الشيخ المأمون بن المنصور حين سلم العرائش فكان ذلك سببا في ثورة ابن أبي محلي، وفي قيام غيلان باغتيال محمد الشيخ. فهناك حدود حمراء لا يمكن تجاوزها، وتحل الرعايا من يمين الطاعة والولاء. ويمكن أن نستشهد أيضا بما حدث في المغرب والحماية الفرنسية تلفظ أنفاسها حين حاول المستعمر تثبيت صنيعته ابن عرفة على العرش، ونفى السلطان محمد بن يوسف، فثارت ثائرة المغاربة جميعا ولم تهدأ إلا بعد رجوع الملك الشرعي من منفاه وحصول البلاد على استقلالها، فأثبتوا بذلك تشبثهم ببيعته الشرعية وبالميثاق الذي يربطهم به.

شروط البيعة الصالحة

سعى المغاربة ملوكا ورعايا إلى توفير الشروط الملائمة لنجاح انتقال السلطة عبر البيعة، ويلاحظ أن قيام ما يمكن أن نسميه بالبيعة الصالحة المتينة يتطلب على الأقل توفر أربعة شروط:

–       ظروف الأمن والاستقرار التي تخول للناس حرية الاختيار والبيعة. وعندما لا تتوفر هذه الظروف فإن حالة من الفوضى تخيم على البلاد، لسنوات طويلة، كما كان الشأن بعد وفاة المنصور السعدي، والصراع بين أبنائه وبين عدة إمارات لسنوات طويلة، أو بعد وفاة مولاي إسماعيل وعدم استقرار الأمر بين أبنائه الذهبي وعبد المالك وعلي وعبد الله والمستضيء وزين العابدين ..الخ.(ص 44 من الكتاب).

–       الاختيار المناسب: عمل السلاطين السعديون ومن بعدهم العلويون على التدخل لضمان الانتقال السلمي للحكم بين أفراد العائلة، ومن ذلك توصية جد السعديين محمد بن عبد الرحمان القائم  بالحكم لابنه أحمد ثم محمد الشيخ، ولذلك ثار الثاني على الأول حينما حاول تولية العهد لابنه. وعين الغالب ابنه محمدا المتوكل وليا للعهد، كما عين المنصور ابنه محمد الشيخ المامون وليا للعهد، وكذلك مولاي اسماعيل، ثم محمد بن عبد الله، وهدفهم من ذلك تجنب الفتن التي تنشأ بسبب المنافسة بين الأبناء على الحكم. وقد تحدث الفشتالي عن حفل مبايعة الناس لولي عهد المنصور وأداء القسم وقراءة نص الوثيقة أمام الأشهاد في حفل كبير. مما يؤكد رغبة المنصور في توفير كافة الضمانات لنجاح انتقال الحكم لابنه, لكن جل هذه المحاولات لم تنجح، بسبب أن الاختيار لم يكن مناسبا، فسرعان ما تبين للمنصور أن ابنه لم يعد صالحا للحكم فعزله ومات قبل أن يحسم في مسألة ولاية العهد، وكذلك شأن مولاي اسماعيل، ومات محمد بن عبد الله وابنه وولي عهده اليزيد معاقب لسوء تصرفه، فبايع الناس إخوته، ولم تستقر الأحوال إلا بعد سنوات من الصراع. لكن ما يثير الإعجاب هو الوصية التي أوصى بها مولاي سليمان لابن أخيه عبد الرحمان بن هشام، مفضلا له على أبنائه، والتي ساهمت بشكل كبير في انتقال سلمي وهادئ نسبيا للسلطة.

–       ومع الاختيار المناسب لا بد من الإسراع في البيعة، تجنبا للفتن والاضطرابات. فعندما انتهت معركة وادي المخازن، سارع المغاربة إلى إعلان أحمد المنصور سلطانا، وبايعوه في مكان المعركة، تجنبا لأية فتنة يثيرها من يطمعون في الحكم. ثم استكملت البيعة في فاس ومراكش. والحكمة في الإسراع بالبيعة هو الحفاظ على مصالح الناس، لأن التردد والتأخير يدفع بالمنافسين إلى التحرك واستقطاب الناس، وعندما تحتدم المنافسة يحار الناس، وتذكر بعض المصادر أن بعض المدن لم تصل بها الجمع لأسابيع، لعدم وضوح الرؤية، وعدم الاتفاق على إمام يدعون له في المنبر.

–       تولي البيعة من أهل الحل والعقد: من مميزات البيعة أنها ليست مفتوحة لعموم الناس، لاستحالة ذلك، ولأن الالتزام يكون ممن له القدرة على الوفاء بالتزامه، وله تأثير على الناس، ومفهوم أهل الحل والعقد مرن يتسع لكل من لهم نفوذ ووجاهة ورأي، وقدرة على الفهم والتدبر والالتزام بالميثاق الذي يوقعون عليه. فالمبايعون هم نخبة معبرة مختارة ومؤثرة ماديا ومعنويا. فشيخ القبيلة مثلا له تأثيره على القبيلة وهو ممثل لها ، وأمين التجار أو الحرفيين، كذلك، ورئيس الجند، ونقيب الأشراف، وكبار العلماء والقضاة والمفتين والعدول وغيرهم. وفي نصوص البيعات نجد بعض الأمثلة: “علماْ أعلام وأصحاب الفتاوى والأحكام وعظماء أشراف كرام ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمقدمين في كل ناد من عرب البدو والحضر وجيوش العبيد والبربر…” ص 16 من الكتاب، وفي بيعة مكناس ص 388:” أقارب السلطان الجيش أعيان الشرفاء العلويين العلماء العدول الشرفاء الأدارسة، المرابطون ..” وفي صفحة 393 نجد : ط… ولاة أزمور وأعيانها، العلماء التجار كافة أهل البلد، أولاد كذا والقائد والفقيه إلخ..”

في رسالة العلماء إلى المتوكل نجد عينة من هؤلاء: ” …كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد والرؤساء من أهل المغرب …” الافراني، نزهة الحادي، ص129.

–       وفي الأخير فإن البيعة تكون عامة وعلنية وتقرأ على الأشهاد، وتسجل كتابة، ويتم التوقيع عليها من المبايعين، والعدول المبرزين، ضمانا لسلامتها واستمرار حجيتها.

كتاب البيعة وأهميته للباحثين

من قراءة مقدمة الكتاب تتضح أهميته وقيمته، وهي بالمناسبة مقدمة مركزة وفي غاية الدقة وغنية بالمعلومات اللازمة لفهم موضوع البيعة، ومصاغة بعناية بالغة.  وأهم مميزات هذا الكتاب في نظري:

–       مصدر أساسي، اجتمع فيه ما تفرق في غيره من المصادر حول موضوع البيعة، فهو مجهود ضخم في تجميع النصوص وتنظيمها وعرضها، في شكل جذاب يحافظ على جماليتها وشكلها الأصلي.

–       الباحث لا يتوفر فقط على نص الوثيقة، وإنما على نسخة جيدة ملونة لها، تمكنه من الرجوع إليها مباشرة والاستفادة من دون واسطة.

–       بإمكان الباحثين القيام بتمرينات على قراءة الخطوط وفك رموزها لأن الوثائق مصحوبة بنصوصها مرقونة.

–       توجد نصوص البيعات في شكل جذاب ربما أفضل من شكلها الأصلي، الألوان والتزيين والزخرفة والأختام والطابع والإمضاءات والديباجة والأسلوب واللغة وغيرها.

–       يمكن لأسماء الموقعين المبايعين أن تكون لوحدها محل دراسات متعددة الاختصاص.

–       توجد نصوص البيعات مرتبة ترتيبا زمنيا حسب توالي الملوك العلويين، وكل ملك مصحوب بسيرة مركزة ومفيدة عن حياته بحيث يصلح الكتاب ليكون أيضا تاريخا مركزا لملوك الأسرة العلوية، وكل ذلك مرفوقا بالصور والرسوم واللوحات الفنية.

–       أفردت المؤلفة صفحات خاصة للأختام والطوابع، مما يشكل مساعدة قيمة للباحثين للتعرف على الوثائق المخزنية.

–       الكتاب مفيد للمؤرخ ولعالم السياسة والقانون الدستوري وعالم الاجتماع وعالم اللغة والأدب، وهو أداة مهمة لخدمة القضايا الوطنية ولفهم طبيعة نظامنا السياسي.

–       من حيث الشكل، كتاب نفيس، قيضت له كل إمكانيات التميز والجودة: الورق والخط والصورة وتصميم الصفحات وإعدادها. هو في الحقيقة تحفة فنية، يعتبر محظوظا من يتملكه.

أخيرا، هذا النوع من الكتب ليس في مستطاع ومتناول الجميع، وخاصة الباحثين الشباب والطلبة، ولا بد من تزويد خزانات الكليات والجامعات بنسخ منه، ورقمنته، في أفق توفيره في نسخ عادية لتعميم الاستفادة منه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .