الجمعة , أكتوبر 17 2025
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / قراءة في كتاب خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية للدكتور إبراهيم القادري بوتشيش

قراءة في كتاب خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية للدكتور إبراهيم القادري بوتشيش

خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية للدكتور إبراهيم القادري بوتشيش

                                                                                                                                              د.سعيد بنحمادة

يطفح هذا الكتاب، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة، في طبعته الأولى لسنة 2014م، في 86 صفحة من القطع الصغير، بالجدة والراهنية، فهو يفتح ملف العدالة في مصنفات الآداب السلطانية، في وقت ما فتئ النقاش العمومي بالمغرب آخذا مجراه، رسميا وشعبيا، حول إصلاح منظومة العدالة، وهو ما يفهم منه بعض مظاهر التجديد التي همّت آليات اشتغال البحث التاريخي، في إطار “المدرسة التاريخية المغربية”، بدليل أن النصوص السلطانية، حسب المصنف، تشكل ((أداة مرجعية يمكن أن يرتشف منها الفكر العربي المعاصر، أو يقف منها موقف النقد الإيجابي المنتج أفكارا جديدة، ما قد يفيد في تشريح بعض المعضلات الفكرية العربية الراهنة)) [ص: 7].

وأهمية الموضوع، في تقدير المؤلف، إنما تستمد من خصوصيات “خطاب العدالة” كما صاغته كتب الآداب السلطانية؛ فهو خطاب ((معقد وغامض بسبب الحمولات والملابسات التي رافقت تشكله وتجلياته، بوصفه قولا سياسيا وإنتاجا فكريا جسّد حلقة من حلقات تاريخ الأفكار السياسية في الإسلام في أبعادها الثقافية والاجتماعية والإيديولوجية)) [ص: 7].

ومن ثم فكتب الآداب السلطانية، أو “مرايا الأمراء”، كما كانت تعرف، تمثل أحد مكونات الفكر الإنساني، أفرزها واقع حضاري امتزج فيه “الديني” بـ”السياسي”، مما جعل خطاب العدالة يبرز بمثابة مقاربة أخلاقية للتوفيق بين ذينك الحقلين.

وتبرز قيمة الكتاب من خلال الآلية المنهجية التي وظفها الباحث الباحث، والمتمثلة في إعادة ترتيب الوقائع، وتنويع القراءة والبناء، وربط المعطيات بسياقها التاريخي، والحفر للوصول إلى المسكوت عنه، في ضوء التداخل المفهومي في أبواب تلك الكتب؛ مثل “العدل” و”الشورى”، وغلبة البعد النظري على المتون المذكورة، وهو ما صرح به المؤلف بقوله: ((أما على المستوى المنهجي فسنحاول … تبني منهجية متعددة ومتنوعة، تبدأ بقراءة البنية النصية المتمحورة حول العدالة كما وردت في كتب الآداب السلطانية، ومراعاة زمنيتها في ضوء التفاعلات التاريخية والبيئية والسياسية التي أنتجتها، فضلا عن تفكيك نسيجها الداخلي لإدراك مفهوم العدالة السلطانية، وحدود الوعي بها، ثم تشخيص خطاب العدالة في مستواه المعرفي وخلفياته الإيديولوجية واستنطاق مضمراته)) [ص: 10].

أما الإشكالية المركزية للكتاب، فتقوم على ثلاثة مرتكزات، تحاول الإجابة عن أسئلة مركزية، تتعلق أولا بمفهوم العدالة وشكل بنائه وحدوده، والموجهات الناظمة له، وخصوصياته باعتباره قولا سياسيا؟ ثم المرجعيات التي تحكمت في لحظة تشكله لدى كتّاب الآداب السلطانية؟  وما إذا كان لحقوق الإنسان موقع في خطاب العدالة، وهو يحاول التوفيق بين تفرد الحاكم “العادل” بالسلطة وإقراره في الوقت ذاته ببعض حقوق الرعية؟

ركز المؤلف، للإجابة عن تلك القضايا، على أربعة نصوص مشرقية ومغربية، وهي “نصيحة الملوك” للماوردي، و”التبر المسبوك في نصيحة الملوك” للغزالي، و”الإشارة في تدبير الإمارة” للمرادي، و”الشهب اللامعة في السياسة النافعة” لابن رضوان.

وأهمية هذا الاختيار يغذيها التنوع المذهبي لمؤلفي هذه الكتب، مما يسمح بنتوع الرؤية، وتكامل تلك المصنفات بفضل استفادتها من التراكم الذي تميزت به مضامنها بفعل الاقتباس والتناص والنقل الحرفي أحيانيا من نصوص مماثلة.

وبناء على ذلك التصور قسم المؤلف الكتاب إلى أربعة فصول، غير المقدمة التأطيرية والخاتمة الاستنتاجية؛ فأما الفصل الأول فيتربط بـ”العدالة والآداب السلطانية: المفهوم والشكل والمحتوى”، تركز العمل فيه على العناصر المكوّنة لخطاب العدالة في تلك الكتب، والذي يتأسس على ثلاثة عناصر: المخاطِب والمخاطَ وموضوع الخطاب. ومفهوم القول في العدالة السلطانية بين الالتباس وغياب النظرية، حيث اتخذ هذا المفهوم بُعدا دنيويا، كما يقدم نفسه في صورة نصوص خبرية تتماهى فيها الأقوال الوعظية والحكمية والشعرية والوقائع والعبر. والموجهات الناظمة لخطاب العدالة في الآداب السلطانية، والمتمثلة في كون السلطان مصدر مولّد للعدالة، وأنها مسؤوليته الأخلاقية غير الملزمة، وأن العدالة أحد أسس بناء الدولة والاستقرار والتوافق الاجتماعي والنماء. والعدالة في تصنيفات الآداب السلطانية، والتي تقوم على شقين، حسب ما توصل إليه الأستاذ الباحث من التفريعات والتقسيمات، الشق الشرعي، والشق السياسي، حيث تنحو النصوص السلطانية نحو التركيز على عدالة السلطان انطلاقا من ذاته؛ إذ بعدله ((تأمن الرعية على نفسها ويسود الاستقرار، وتزوّد خزينة الدولة بالجبايات، ما يساهم في تدبير الدورة الاقتصادية، ويكشف عن صلة العدالة بقوة القاعدة الاقتصادية للدولة)) [ص: 25].

أما الفصل الثاني، الخاص بـ”المرجعيات المؤسسة لخطاب العدالة في الآداب السلطانية”؛ فأجملها المؤلف في استنبات بعض جوانب تلك العدالة في تربة الاستبداد الشرقي أو نمط الإنتاج الآسيوي، ومرجعية المأثور الديني، والمرجعية الكونية أو “ثقافة الآخَر” (الفرس، اليونان، الصين، الهند، …)، والمرجعية التاريخية المستمدة من الواقع المجتمعي؛ إذ ((كان للتاريخ “سحره” في التوظيف لدعم صورة العدالة التي تبنتها الآداب السلطانية)) [ص: 43].

في حين ناقش الفصل الثالث مسألة “الحاكم بين ازدواجية السلطة المطلقة والعدالة”، من خلال معطيين متكاملين يكشفان تداخل السياسي بالديني في الكتب السلطانية: تميز السلطان عن فئات الرعية وسموه عنها، والحاكم المؤلَّه وإشكالية الحرية، وما أفرزه ذلك من امتزاج الاستبداد بالعدالة (الحاكم المستبد العادل)، من خلال ثقافة التخويف والترويع، وآلية الملاطفة والاستقطاب، مما أدى إلى استهداف الرعية بطاعة الحاكم ولو بالإكراه.

أما الفصل الرابع فركز على “حقوق الإنسان في خطاب الآداب السلطانية”، وهي حقوق، حسب المؤلف، تقوم على هرمية المجتمع، حيث السلطان في القمة، متبوعا بالحاشية وكبار موظفي الدولة أو الخاصة، ثم تأتي العامة في القاعدة، وهو ما يطرح مسألة الفئوية وإشكالية المساواة في كتب الآداب السلطانية؛ ومؤداها، في تقدير الأستاذ الباحث، أن صورة العدالة ((صورة مائعة تنطق بالفئوية والطبقية وعدم المساواة بين فئات المجتمع، ويؤسسها مبدأ “إنزال الناس منازلهم”، وهو المبدأ الذي يوجّه السلطان للترفع عن العامة والنفور منها، والانبساط مع الخاصة والتودد إليها، والانصياع التام لأوامره وتقدير أمور العدالة على هواه)) [ص: 62]. ومن ثم قسم هذا الفصل حقوق الرعية إلى حقوق الخاصة، والتي اختلقت بحسب الانتماء الطبقي، وجعلت هذه الطبقة تحظى بامتيازات، في مقابل حقوق العامة، التي يأتي الحديث عنها، وقف تقدير المؤلف، لترسيخ منظومة الاستبداد، لكون هذه الفئة تعد الشريحة المنتجة والمزودة للدولة بالإنتاج والضرائب.

إن العدالة في الآداب السلطانية، كما شرحها هذا الكتاب، تتماهى مع السلطان؛ فالعدالة هي السلطان والسلطان هو العدالة، يضاف إليها طبيعة هذا السلطان؛ المؤلَّه والمتميز عن سائر طبقات المجتمع. وأما الرعية وحقوقها فمستمدة من تصور السلطان لها وللعدالة نفسها.

وإذا كنا قد شددنا على راهنية موضوع الكتاب، وامتداد تجلياته؛ فإن الواقع، وبعيدا عن الإسقاط التاريخي، ((يشهد على استمرارية الآداب السلطانية في تخصيب الفكر العربي المعاصر)) [ص. 68]؛ من خلال إعادة إنتاج خطاب العدالة لذاته مشرقا ومغربا على أساس “ما جرى عليه العمل”.

في تقديرنا أن قيمة المعرفية والمنهجية للكتاب تكمن في أهمية المقاربة التاريخية في خوض غمار هذا الجانب من العقل العربي خلال العصر الوسيط، وفتح آفاق راهنية له؛ فكثيرا ما كانت كتب الآداب السلطانية موضوع القول الفلسفي (سعيد بنسعيد العلوي، محمد عابد الجابري، كمال عبد اللطيف، سامي النشار، عز الدين العلام، ….)، وقلما تنبه المؤرخون لذلك، إلا مع التجديد الذي طال الوثيقة والحدث والزمن والرؤية في الكتابة التاريخية (رضوان السيد، وداد القاضي، …). كما أن الكتاب يساير من دافع عن القول بـ”الاستبداد” وشرّح أصوله من خلال القراءة في نظام الآداب السلطانية. وهو موقف لا يمكن الأخذ به على عواهنه، لكون بعض كتب الآداب السلطانية قد اتخذت منحا إصلاحيا، وعرّت مكامن الفساد الذي نخر الدولة والمجتمع في بعض مراحل العصر الوسيط بالمغرب والأندلس؛ ففي نظر الطرطوشي (تـ. 520هـ/1126م) أن سقوط الدولة الأندلسية إنما يعزى إلى تفضيل المال على الإنسان؛ فـ((معظم ما أهلك بلاد الأندلس وسلط عليهم الروم، أن الروم التي كانت تجاورها، لم يكن لهم بيوت أموال، فكانوا يأخذون الجزية من سلاطين الأندلس، ثم يدخلون الكنيسة، فيقسمها سلطانهم على رجالهم بالطاس، ويأخذ مثل ما يأخذون، وقد لا يأخذ منها شيئا، وإنما كانوا يصطنعون بها الرجال. وكان سلاطين الأندلس من المسلمين تحتجن الأموال، وتضيع الرجال؛ فكانت للروم بيوت رجال، وللمسلمين بيوت أموال، فبهذه الحيلة قهروا وظهروا)) [الطرطوشي: سراج الملوك، مصر، 1289هـ، ص: 124، 125. ابن رضوان: الشهب اللامعة في السياسة اللامعة، تحقيق: علي سامي النشار، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1404هـ/1984م، ص: 365، 366].

وأن من مظاهر ذلك الاختلال أيضا، ما تعلق بالسياسة الجبائية التي لم تسلم في بعض الفترات من شطط؛ ففي الأندلس ((ما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم وأمر العدو في ضعف وانتقاض لما كانت الأرض مقطعة في أيدي الأجناد؛ فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين ويربونهم كما يربي التاجر تجارته، وكانت الأرض عامرة، والأموال وافرة، والأجناد متوافرين، والكراع والسلاح فوق ما يحتاج إليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر؛ فرد عطايا الجند مشاهرة الأموال على النطع، وقدم على الأرض جباة يجبونها؛ فأكلوا الرعايا، واجتاحوا أموالهم واستضعفوهم؛ فتهاربت الرعايا، وضعفوا على العمارة؛ فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطان، وضعفت الأجناد، وقوي العدو على بلاد المسلمين حتى أخذ الكثير منها. ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلى أن دخلها المتلثمون؛ فردوا الإقطاعات كما كانت في الزمان القديم)) [الطرطوشي: سراج الملوك، ص: 123. ابن رضوان: الشهب اللامعة، ص: 369، 370].

كما أننا نتساءل من جهة أخرى عن الائتلاف والاختلاف، في العقل السياسي العربي بين كتب الآداب السلطانية ومصنفات “السياسة الشرعية” وكتب المناقب، ما دام أن خطاب الإصلاح في العصر الوسيط توزع دمه بين الفقيه والولي والأديب السلطاني؛ فمن الوظائف السياسية للفقيه أن ((ينظر في رتبة الملك والسلطان، وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة، وهو معنى السلطان، أو تعويضا منها … وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقا أو مقيدا، وفي موجبات العزل، إن عرضت، وغير ذلك من معاني الملك والسلطان، وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان، من وزارة أو جباية أو ولاية، لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك)) [ابن خلدون: المقدمة، دار الجيل، بيروت، د.ت، ص: 260]. ولذلك نافح البعض عن مداخلة العلماء للسلاطين، حتى يتمكنوا من مراقبة الشأن العام وتمرير خطابهم الإصلاحي؛ إذ ((لا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، … ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب، وعلى دولتهم أن تذهب، وعلى أموالهم أن تنهب، وعلى حرمتهم أن تنتهك، وعلى عزهم أن يذل، ووجدوا أعظم السبيل إلى التخلص من أكثر أحكام الإسلام قائلين: جهلنا لم نجد من يعلّمنا، لم نلق من يبصّرنا، فرّ عنا العارفون بالدين، وهرب منا العلماء العاملون)) [الشوكاني: رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين، تحقيق: محمد الصغير العبادلي، دار ابن حزم، بيروت، 2004م، ص: 74].

ونختم ملحوظاتنا بموقف ابن خلدون من كتب الآداب السلطانية، وهو شاهد على ثقافة عصره وعصر من سبقوه؛ فعند مقارنته بين هذا الجنس المصدري وبين “علم العمران” الذي دعا إليه، رأى أن الأول يستمد معلوماته من الفُرس واليونان، مما جعل نصوصها ((غير مبرهنة، … إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام)) [المقدمة، ص: 44]. مستدلا على ذلك بكتاب “سراج الملوك” لأبي بكر الطرطوشي؛ الذي ((بوبه على أبواب، … لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة؛ إنما يبوب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس، … وحكماء الهند، … وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعا، ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجابا، إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنه حوّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقق قصده، ولا استوفى مسائله)) [المقدمة، ص: 44]. وإن وجدنا من الباحثين من يدرج “المقدمة” نفسها ضمن كتب الأحكام السلطانية، إلا أنهم رأوا فيها استثناء عن غيرها من هذا الصنف المصدري المهتم بالسياسة الشرعية [عز الدين العلام: الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 324، 1427هـ/2006م، ص: 88].

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .