الجمعة , مارس 29 2024
أحدث الإضافات
أنت هنا: الرئيسية / الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش: الحاجة للتاريخ لتحديد المواقف من قضايا المجتمع المغربي: ولوج المرأة المغربية سوق الشغل نموذجا

الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش: الحاجة للتاريخ لتحديد المواقف من قضايا المجتمع المغربي: ولوج المرأة المغربية سوق الشغل نموذجا

       يأتي هذا المقال في سياق النقاش الذي عرفته بلادنا مؤخرا بعد التصريح الذي أدلى به السيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في مؤسسة دستورية مسؤولة حول المرأة ومجال العمل خارج البيت. والهدف من المقال ليس تقديم سجال بوليميكي، أو رؤية حزبية  تستغل “مطبة ” التصريح السالف الذكر لتحصد منه  نقطة زائدة على حساب الخصم واستغلالها لأجندة انتخابية مرتقبة. كما أنه لا يروم تبرير أي ” تحريف ” أو قراءة ملغومة لهذا التصريح، بل هو طرح ثقافي محض، يستند إلى مقاربة تاريخية تسعى إلى وضع الأصبع على دور التاريخ في صياغة أرضية ناضجة لأي نقاش سياسي أو اجتماعي، وخلق بيئة ملائمة وحكيمة لأي توجه يستهدف معالجة قضايا المجتمع المغربي، وضمنها إشكالية المرأة المغربية وإدماجها في سوق الشغل. فلماذا وما هي أهمية الإحالة على التاريخ  بصدد قضية من هذا القبيل؟

       لعل أول مرتكز نستند إليه لتبرير استحضار التاريخ كمرجعية في نقاشاتنا في موضوع تمكين المرأة من ولوج سوق الشغل يكمن في أنه عبر تاريخ المغرب، لم تكن مسألة خروج المرأة  لسوق الشغل وتدبير إعالة الأسرة محل خلاف أو نقاش كما يجري اليوم تحت سمعنا وبصرنا. فالعمل النسوي خارج البيت كان حقا  مكتسبا لا يماري فيه أحد، بما في ذلك الفقهاء الذين أوردوا في مدوناتهم الفقهية نصوصا وعقود عمل وعقود شركات كانت المرأة أحد اطرافها البارزين. ومن تخامره ذرة من الشك في ذلك، فليرجع إلى نوازل ابن رشد وفتاوى ابن الحاج وابن بشتغير والقاضي عياض وغيرهم من الأئمة المجتهدين. وإذا كانت بعض النصوص النظرية سعت إلى ترسيخ دونية المرأة وافتقارها للقدرة على تحمل المسؤوليات خارج بيت الزوجية، فإن الواقع التاريخي العياني أبان عن عكس هذا الاتجاه تماما، خاصة أن شيوع تيار مقاصد الشريعة، إلى جانب  كثرة الحروب وضياع رأس المال الذكوري وحاجة المرأة لكسب العيش، كل ذلك جعل ولوج المرأة سوق الشغل مجرد تحصيل حاصل.

        ويتجسد المرتكز الثاني في استحضار التاريخ في كونه آلية لقراءة وفهم تطور العمران البشري، وعبرة ودرسا، وتفكّرا وتدبّرا حسب المنظور الخلدوني. كما أنه  فرصة تأمل لبناء الذات، ولحظة مؤسسة للتفكير الإيجابي، وقاعدة ثقافية صلبة لاستجلاء الحقائق، والدفاع عن الحق المكتسب، سواء كان حق المرأة أو غيرها. فمبدأ الحق التاريخي يمنح المسألة المختلف بصددها مساحة واسعة من المشروعية، وهو ما يجسده نموذج الصحراء المغربية التي استرجعت بمنطق الحق التاريخي كما هو مثبت في الوثائق والمستندات، والأمثلة في هذا الصدد تطول لو أردنا استعراضها أولا بأول.

       أما المرتكز الثالث الذي يخيل إلينا أنه يسمح بتوظيف المقاربة التاريخية في قضايانا الراهنة التي تناقش تحت قبة البرلمان، فهي أن التاريخ المغربي كان دائما متناغما ومنسجما مع منظور الإسلام للمرأة، ومع تقاليد البيئة الأمازيغية، فكلاهما شكل الهوية التي منها يستمد القانون التشريعي، ومنها يتأسس مبدأ إلغاء التمييز ضد المرأة. كما أنهما معا – الإسلام والبيئة الأمازيغية – رفعا من السقف التشاركي للمرأة، وأباحا  بقوة القانون والعرف مساهمتها في العمل خارج البيت. لذلك فإن المقاربة التاريخية التي نقترحها لا تشكل بديلا عن رؤية الإسلام للمرأة وخيوط منظوره المتحرر تجاه مسألة ” الجندر”، ولا عن بيئتها الأمازيغية التي احتضنت مجتمعات أموسية رفعت من مكانة المرأة المغربية وجعلتها على قدم المساواة مع الرجل، بل أنتجت نساء كنّ فاعلات أساسيات في تاريخ العمل الأنثوي بالمغرب، حققن به قصب السبق على العمل الذكوري، وهو ما كشفت عنه الدراسات الأنتروبولوجية التي أكدت نتائجها غياب العقلية الذكورية في بعض مناطق المغرب خلال العصر الوسيط، وهيمنة النظام الأموسي في بعضها.

         ويكمن المرتكز الرابع والأخير في أن عمل المرأة المغربية الذي يعدّ بكل المقاييس ” تيمة ” تنتمي لفضاء أرشيف تاريخي قديم ناطق بتراث أمّة، لا تزال تعتريه – للأسف – المحدودية والحيف والتسطيح، والرؤية التجريدية أو المأدلجة التي تقفز على حقائق التاريخ من قبل أولئك الذين (( يبغونها عوجا )). والمهم  في هذا الصدد هو أن أية صياغة للقول في موضوع عمل المرأة خارج البيت، أو تبني أي قرار بخصوصه سواء في صالونات السياسة أو منابر الإعلام، ينبغي أن ينطلق من المسؤولية تجاه هذا التراث ووجوب احترامه، وعدم مسخه، أو حمل أحكام وتأويلات مهزوزة، أو تخريجات مغموزة بشأنه، نتيجة لما يعرفه مجتمعنا من إخفاقات وشروخ. فالنظر إلى ولوج المرأة ميدان الشغل ينبغي أن ينطلق من مبدأ احترام تاريخ المرأة المزارعة والحرفية والتاجرة التي خرجت من البيت تضرب في الأرض بحثا عن مورد رزق، وأبانت عبر تاريخ المغرب عن مهارة فائقة وقدرات إنتاجية شهد بها المؤرخون. وكل تطاول على هذا التراث النسوي في ساحات المناقشات، أو في اتخاذ أي مبادرة وطنية، يعتبر خرقا لسنن التاريخ، وضربا للأعراف الاجتماعية، وعصفا بالهوية وبالمشروع المجتمعي.

        تأسيسا على هذه المسوغات التي تتيح توظيف المقاربة التاريخية في بناء قضايانا الراهنة وسبك قوانين وتشريعات تتسم بالرزانة والحكمة، سأسعى في عجالة إلى إماطة اللثام عن بعض أدوار المرأة المغربية خلال العصر الوسيط، وهي الأدوار التي أنتجتها خارج بيت الزوجية، دون أن تتنكر لأمومتها، لنستكشف أن تاريخنا مليئ بنماج النساء اللواتي جعلن من الأمومة والعمل خارج البيت وجهان لعملة واحدة، فجمعن بين دور الأم  ودور العاملة في الحقل وفي الأوراش الحرفية والأسواق،  ودور الفارسة المحاربة التي تدافع عن حوزة الوطن، والسياسية الماهرة التي تسهم في نشأة الدول، والعالمة المتألقة التي تنشر المعارف وتشيع القيم.

        في هذا المنحى، تكشف متون المصادر التاريخية الراجعة للعصر المغربي الوسيط أن المرأة المغربية احتلّت موقعا محترما في عمليات الإنتاج في المزارع والأوراش والأسواق.  ولا يخامرنا شك في أن وضعيتها المنتجة هاته فرضتها الظروف الاقتصادية وحاجة العائلة إلى مصدر ثان يضمن لها اكتفائها الذاتي، لذلك ساهمت مساهمة فعالة في الميدان الزراعي كما تثبت ذلك النوازل الفقهية الخاصة بالبوادي المغربية. كما ساهمت في بيع المنتوجات والسلع، وحسبنا دليلا على ذلك أن ابن تومرت المنظر الإيديولوجي للدولة الموحدية شاهد – حسب ما سجله رفيقه البيدق في مذكرات طريق عودتهما  نحو مراكش-  مجموعة من النسوة في مدينة تاوريرت وهنّ  يبعن مادة اللبن في الأسواق. كما عرفت إحدى الأسواق المغربية بسوق الغزل لأن النساء كنّ يجتمعن فيها لبيع ما تنتجه أيديهن من منسوجات صوفية، وتنشيط الدورة الاقتصادية. وفي السياق نفسه تكشف بعض النصوص أن سكان منطقة  سوس كانوا يحفزون نساءهم على كسب عيشهن بالإنتاج الحرفي، وبيع السلع ذات القيمة الاستعمالية. وتضمنت نوازل ابن رشد عقد بيع تمّ بين امرأتين، وآخر حول مساهمة امرأة في شركة رحى، وهو ما يثبت المقاربة التشاركية للمرأة في سوق العمل، ودورها المحوري في المعاملات المالية والشركات المربحة.

          وعلى المستوى السياسي، لا نود التوسع في نموذج زينب النفزاوية، بل نكتفي فقط  – من باب الإنصاف – التذكير بالدور الأنثوي في صناعة تاريخ المغرب، فالمرأة/ النموذج الذي اتخذناه هي بنت تاجر كبير من القيروان، نشأت في جوّ متحضّر، واكتسبت من الحنكة والدهاء ما جعلها تتفوق على الرجال، وتفرض شخصيتها ونفوذها في شؤون السياسة والحكم، حيث كانت حاضرة بقوة في لحظة تأسيس الدولة المرابطية وهو ما عبّر عنه ابن خلكان بقوله : (( وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده )). ولا غرو فقد لعبت دور المستشار ليوسف بن تاشفين الذي امتثل لنصائحها، وكلما عنّت له مشكلة أو اعتورته صعوبة لجأ إليها لتقدم له الحلول الناجعة، بل إليها يرجع الفضل في تدبير فتح المغرب، حتى أن زوجها (( كان يقول لبني عمه إذا خلا بهم  وورد ذكرها، إنما فتح البلاد برأيها ))  كما يفصح عن ذلك المؤرخ ابن الخطيب.

        ويستشف من نصوص العصر الوسيط أن نساء قبائل صنهاجة دأبن على المشاركة في مجلس القبيلة،  وكان يعتد برأيهن، وكرّسن جلّ أعمالهن خارج البيت، مما سمح لهن بلعب أدوار متنوعة، بل إن امرأة تزعمت إحدى قبائل مسوفة في منطقة تغارة جنوبي المغرب بجوار المحيط الأطلسي. وقد تكون هذه الأدوار المتميزة التي لعبتها المرأة الصنهاجية ما جعل الانتساب للأم عادة متوارثة  في بعض المناطق المغربية، بل كان الرجل يجد في الانتساب لأمه نوعا من التشريف والاعتزاز كما تؤكد ذلك اسماء القادة والشخصيات النافذة في المجتمع  المغربي الوسيط من أمثال القائدين العسكريين ابن عائشة ومحمد بن فاطمة، والأمير ابن حواء، ووالي قرطبة ابن جنونة، وعامل فاس ابن الصحراوية وغيرهم.

        وعلى غرار الأدوار السياسية المتنوعة التي قامت بها المرأة، أدّت أيضا دورا متميزا على المستوى الحربي، حيث تميّزت النساء المرابطيات بالشجاعة والإقدام، وتدرّبن على النزال والطعان وأعمال الفروسية. وفي هذا الصدد تذكر وثيقة مسيحية وجدت في ” الكوباز” سنة 1596 م أن جيش المرابطين ضمّ عددا من النساء اللواتي شاركن في إحدى المعارك سنة 1139 م، وهنّ يرتدين ثياب الرجال، ويقاتلن على طريقة الفرسان. ويذكر أحد المؤرخين أن زوجة الأمير تاشفين بن علي خرجت مع هذا الأخير على نفس الفرس الذي كان يمتطيه خلال المواجهة الحاسمة مع الموحدين على مشارف الساحل المتوسطي بمدينة وهران. وشهد البيدق رغم عدائه للمرابطين ببسالة فانو بنت عمر بن ينتيان التي قاومت الموحدين في هيئة  رجل، واستطاعت أن تنتزع دهشة وإعجاب الجيش الموحدي.

وتجسّد عمل المرأة  أيضا خارج البيت في اشتغالها بالطب. وقد احتفظت كتب التراجم بأسماء بعض نساء القرنين الخامس والسادس الهجريين / 11-12م اللواتي برزن في العلوم الطبية كأم عمر بنت أبي مروان بن زهر التي وصفها أحد المؤرخين بأنها (( متقدمة في الطب، ماهرة في التدبير والعلاج ))، وحسبنا أنها كانت تخرج إلى قصور الأمراء، وتنظر في علاج أمراض نسائهم وأطفالهم وإمائهم. ونفس القول ينسحب على أخت أبي بكر بن زهر التي اشتهرت بخبرتها في أمراض النساء والتوليد.

        وفي مجال الأدب والثقافة، أصبحت غير واحدة من النساء ممن يشار إليهن بالبنان، وفي مقدمتهن الحرة حواء بنت تاشفين التي وصفها ابن عذاري بأنها (( شاعرة جليلة ماهرة ))، كانت تحضر مجالس الأدب مع الشعراء، وتفوقهم بداهة وفطنة، وتحاضرهم في كلّ الأغراض الأدبية. كما كانت تميمة بنت يوسف بن تاشفين إلى جانب فطنتها وأدبها ورجاحة عقلها إدارية بارعة، تقوم بتدقيق وضبط الحسابات مع الموظفين الإداريين، وتقرض الشعر، فضلا عن حواء وزينب بنتي الأمير ابراهيم بن تيفلويت،  وورقاء بنت ينتان ومهجة بنت عبد الرزاق وحمدة وأختها زينب والشلبية، والقائمة تطول لو أردنا أن نسرد كل النماذج  النسائية، ونكتفي بالقول أن هذا التكاثر النسوي والإقبال على مجال الأدب والشعر، أفرز ما يعرف  بظاهرة ” أدب النساء”.

        وبعد، فقد أثبتت هذه الالتفاتة التاريخية بالحجة والقرينة أن عمل المرأة في العصر الوسيط  لم ينحصر بين جدران البيت، بل اخترقت الفضاء الخارجي، ونحتت مكانها في مجال الإنتاج، وحضرت بقوة في الحقول والأوراش الحرفية، والأسواق وميادين التبادل التجاري والتعامل المالي. وامتد ذراعها الطويل إلى مجال السياسة وساحات الوغى والحروب، حتى أنها فرضت نفسها في الوثائق والسجلات الأوروبية التي ذكرتها بإعجاب، ناهيك عن حضورها الثقافي ومشاركتها في مجالس الأدب، والفضاءات المعرفية كمنتجة للفكر، وكمدرّسة ومؤطرة، دون أن تنطفئ قناديل بيوتات المغرب في العصر الوسيط، التي كانت آنذاك الطاقة الوحيدة المتوفرة.

هكذا تكلم التاريخ،  وهذه هي حقائقه لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد… صحيح أن اتخاذ موقف سليم من هذا الموضوع يستلزم أيضا القيام بدراسات نفسية واجتماعية لجسّ نبض الرأي العام  وتوجهاته، وخاصة الرأي النسوي ـ لكن مع ذلك يبقى التاريخ بوصلة إرشاد أساسية،  فلنأخذ منه العبر قبل تحديد المواقف.

وإذا كان هذا المشهد النسائي المغربي المتحرر قد ترسخ  منذ العصر الوسيط، دون انتظار ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945 الذي ينصّ على مبدا المساواة بين الرجل والمرأة، أو اتفاقية سيداو لسنة 1979 التي تنص بدورها على عدم التمييز بين الجنسين، فلماذا نحرص على توزيع الدروس يمينا وشمالا، فنعيد نقاشاتنا إلى المربع الأول لتصريف مواقف تحركها الخلفيات السياسية أكثر من القناعات، بدل إزاحة الحواجز عن الدستور، وتفعيل بنوده، والتسريع  بإحداث هيئة المناصفة؟ 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .