من قيم المقاومة إلى العقيدة العسكرية
المغرب أنموذجا 1907-1934
د. براص محمد، عضو الجمعية المغربية للبحث التاريخي
من الواضح أن مبعث قصور الكتابة التاريخية الكلاسيكية لاكتشاف مسار التاريخ وغايته، دفع بالمنظرين في مجال التاريخ إلى الاعتراف بقيمة فلسفة التاريخ، باعتبارها معيارا صحيحا لنقد الحدث التاريخي بالاعتماد على العقل وقواعد التحليل، وربط مضامينه بالأبعاد القيمية التي قد تكون فاعلة في بعض الحالات ضمن تاريخ القيم الاجتماعية. وتدفع في الآن نفسه إلى إزالة مكامن اللبس الذي قد يعتري الكتابة التاريخية نفسها. وعليه يتضح أن غائية فلسفة التاريخ في جانبها القيمي ترتبط ارتباطا لصيقا بطبيعة علم التاريخ نفسه، حيث يمثل هذا الجانب طرفا محوريا ضمن مجمل العلوم الإنسانية الأخرى. ولا يختلف في مضمونه عن المفاهيم العامة التي حددها مختلف رواد فلسفة التاريخ، من هيدغر وكانط وهيجل وماركس واشبنجلر وتوينبي وغيرهم. بالرغم من اختلاف تصوراتهم حول مفهوم القيم كمعطى فلسفي[1].
فكيف يمكن النظر إلى دلالة مفهوم القيم ضمن بناء فكري خاص، يعتمد في تركيبته على مفهومين مختلفين ومتجانسين في الآن نفسه، هما فعل المقاومة وطابع العقيدة العسكرية. مبحث يأخذ سماته انطلاقا من سياق العملية التأريخية المرتبطة بالأحداث والفاعلين، باتجاه تطور مفهوم روابط المجتمع في مرحلتي الاحتلال والاستقلال ؟
إن التطرق إلى هذه العناصر يقتضي عمليا تحديد الأبعاد النظرية لخصوصية القيم في فعل المقاومة، ودلالاتها على مستوى العقيدة العسكرية. ثم العمل على البحث عن تلك المضامين وفق نسقها التاريخي من خلال النموذج المغربي، وذلك من خلال ثلاث نقط أساسية تتمثل في: .
– الأبعاد النظرية لمفهوم القيم في عمل المقاومة
– الأبعاد النظرية لمفهوم العقيدة العسكرية
– تمثلات مفهومي قيم المقاومة والعقيدة العسكرية ضمن التجربة التاريخية المغربية المعاصرة
– الأبعاد النظرية لمفهوم القيم ضمن عمل المقاومة
من الواضح أن مجمل الأفكار المرتبطة بالمفاهيم الخاصة بالقيم في عمل المقاومة، قلما يتم التطرق إليها وفق أسس علمية محضة. فغالبا ما يتم النظر إليها وفق بناء إيديولوجي، يحمل طابعا مركزيا في التحليل أو في الرصد. أو يتم التطرق إليها وفق منظومة فكرية، تنزع إلى تحديد التمثلات السياسية أو الدينية أو الأدبية. كما هو الحال بالنسبة للندوة الفلسفية التي نظمتها الجمعية الفلسفية بالقاهرة في العام 2004، تحت عنوان : ثقافة المقاومة. وقد تم تأطير الندوة في ستة محاور أساسية تتمثل في : التأصيل النظري لفعل المقاومة، المقاومة في الفكر الإسلامي، المقاومة في الفكر العربي الحديث، المقاومة وحركات التحرر الوطني، المقاومة في الفكر الغربي، مقاومة العولمة.
محاور لم يخل منها عنصر القيم ضمن مختلف الأمثلة المقدمة في الدراسات، خاصة منها تلك التي قدمها حسن حنفي في ورقة بعنوان : ثقافة المقاومة. والتي ركز فيها على مبدأ الامتداد التاريخي للمفهوم في التاريخ الإسلامي[2]. علما أن الندوة عرفت بتنوع مواضيعها وانفتاحها على تخصصات علمية مختلفة. جمعت ما بين المؤرخ والسياسي والفلسفي وعالم الاجتماع، بل أيضا الاقتصادي. وقد خلصت إلى مبادئ أساسية في فعل القيم في عمل المقاومة داخل الوطن العربي خاصة، وفي الإطار الغربي عموما. تعتمد على منطق فلسفي وآخر ديني وبعد سوسيو/ اقتصادي.
وعليه، فإن “الإجماع” الحاصل بين “مفكري الأخلاق”، على امتداد الفترات التاريخية، حول اعتبار قيمة فعل المقاومة المرتبط بمفهوم تحقيق الحرية يوازي المفاهيم الأخرى المرتبطة بطبيعة العلاقات داخل المجتمعات، من قبيل السعادة أو التضامن، أو العدالة. وهي مفاهيم مؤسسة على مبدأ العقد الاجتماعي، والذي تحدد فيه ضوابط تحمي المجتمع من إمكانية حدوث التصادم أو فوضى اجتماعية. لا يستطيع الفرد معها أن يلبي الحد الأدنى من حاجياته، فيفتح المجال لفقدان الاستقلالية، بل يفقد شروط استرجاعها، في ما يعرف “بفعل المقاومة” نفسها، أي مواجهة جميع الأنماط السياسية والعسكرية التي قد تعصف بالمبدأ الأساس، وهو تحقيق الحرية[3] .
إن مبدأ القيم في علاقته بفعل المقاومة، يعد فاعلا محوريا ضمن منظومة الشعوب التي جبلت على الحفاظ على حريتها واستقلالها والتي لا ينفصل المغرب عنها.
فالأصول التاريخية لفعل القيم ضمن عمل المقاومة لا يمكن النظر إليها من زاوية تاريخية ضيقة، أو ربطها بحقبة دون غيرها، إذ يفترض ذلك التأسيس لها بناء على مفهوم التراكم الحضاري لدى الشعوب، ونوعية الأنماط الفكرية المكونة لمنظومتها الثقافية. سواء ما تعلق منها بالقيم المستوحاة من المبادئ الدينية، أم تلك المفاهيم التي تتبلور وفق نمط المعاش، والمعبر عنه من قبل ابن خلدون. بل وحتى تلك التي تنتج بفعل الصراع الداخلي نفسه في بعض الأحيان.
وبحكم التعريف الفلسفي للقيم، أي الأسس والمبادئ الإيجابية التي يتم التوافق حولها اجتماعيا بهدف تحقيق الحياة العقلانية للفرد والمجتمع في آن واحد، فإن مفهوم المقاومة، أي التصدي لكل العوامل المخلة بمفهوم الحرية والتضامن الاجتماعي، سواء داخل الإطار القبلي أم ضمن المجال الحضري، يصبح شرطا إلزاميا على كل فرد قادر على تحقيق عناصره، سواء تعلق الأمر بعمل مسلح، أم ارتبط بفعل فكري سياسي، مبني على شروط “الحياة الفاضلة”[4]. وهي مفاهيم لا ترتبط في الواقع بمنظور فكري أحادي، بل نجدها ذات منزع شمولي يتجاوز إطار الفردية نحو المفهوم الفكري الكوني. والذي يعبر عنه إدوارد سعيد، أو ما وقف عنده جمال مفرّح في بحث بعنوان : “سارتر والالتزام تجاه قضايا المقاومة”، حيث حلل منطق تأييد سارتر للمقاومة الجزائرية، ودفاع هيدغر عن ألمانيا النازية، وذلك وفق بناء فكري تعارضي، مؤسس على مبدأ اختلاف النظرة إلى القيم المتفق حولها ضمن كل سياق على حدى. بل تتجاوزها إلى أبعاد أعمق لدى هابرماس، ضمن “مفهوم فلسفة الوعي”، المبنية على عقلانية الحداثة، التي يتميز فيه المجال المعرفي عن المجال القيمي. والتي تجعل الفرد بوصفه وحدة اجتماعية، شفافاً، قادرا على تجاوز العقبات التي تقف في طريق تحقيق إمكانية استقلاله وتحرره[5]. وهي أبعاد يمكن تلمسها من خلال أمثلة عديدة، لا تنفصم عنها التجربة المغربية، بحكم خضوعها لنفس المعطيات التاريخية في شكلها العام. مع استحضار طابعها الاستثنائي، من حيث مرجعية البناء الفكري والسوسيو/ ثقافي للمنطقة.
فنجد البعد القيمي لفعل المقاومة في المغرب، يتخذ منحى آخر بعد تحقيق الغاية، أي ولوج مرحلة الاستقلال والتحرر في ظل قيام حكومة وطنية شرعية، إذ تصبح المقاومة وفق مبادئها من مسؤولية راعي الأمة وحماة الدولة، فهم الذين يرسمون حدود وأبعاد هذه المقاومة، وفق مسار “الحكامة الجيدة”، المبنية على حكومة منتخبة من الشعب وتمثل آماله وتطلعاته. مدعومة بمقوم أساس يتمثل في وجود جيش وطني، مبني على عقيدة عسكرية واضحة المعالم والأهداف. فأين تكمن الأبعاد النظرية لمفهوم العقيدة العسكرية ؟
– الأبعاد النظرية لمفهوم العقيدة العسكرية
يرى سون زي أن المبادئ الأساسية للعقيدة العسكرية، ترتبط بتوجه تنظيم وحدات الجيش[6]، فالعقيدة العسكرية تتخذ دلالات اصطلاحية عديدة، فيقال العقيدة، والشريعة، والمذهب، وهي بمعنى واحد. غير أن حمولتها الفكرية عرفت تطورا على صعيد المذاهب العسكرية للدول والشعوب، وذلك عبر مختلف الفترات التاريخية. كما ظل مدلول العقيدة العسكرية مرتبط بالأدوات التنفيذية للأهداف الإستراتيجية الكبرى للدول[7]، وهي التي تشرف عليها القوات المسلحة، حيث وضعت الدول عقائدها العسكرية التي تنسجم وأهدافها والمعطيات الواجب تحقيقها وفق الإمكانيات المتاحة لها على جميع المستويات البشرية والاقتصادية والجغرافية، ضمن ما عبر عنه البعض بسياق الإيديولوجية السياسية أو العقائدية والفكرية[8]. وعليه فالعقيدة العسكرية (Military Doctrine) هي: « …، جملة الآراء ووجهات النظر التي يتبناها مجتمع من المجتمعات عن الحرب وعلاقتها بها، وعن المهمات الحربية لهذه الطبقة وعن الحكومة، وعن الجيش كواسطة لخوض الحرب….»[9]. فمنطق التطور التاريخي للعقيدة العسكرية يكشف ارتباط نشأتها بتطور مفهوم الجيوش من أفراد مقاومة شعبية، نحو الجيش النظامي المواكب لتطور الدول، عبر مختلف العصور. من الفترة القديمة المحتكمة إلى طابع الصراع حول الغداء أساسا، إلى الفترة الوسيطية، والتي تميزت بانتشار العقائد القتالية. لتعقبها نظرية العقائد العسكرية البورجوازية خلال القرن التاسع عشر، والتي انتشرت في أوربا الغربية[10].
إن مفهوم العقيدة العسكرية يرتبط في التصور العام بأعلى قمة الهرم المجتمعي إلى أدنى المستويات العسكرية. بحيث يتأسس على تصور خاص لطبيعة دور القوات المسلحة ضمن الأهداف الإستراتيجية للدولة، وبالتالي فمنطق تحقيق نجاح الأهداف لا ينفصم عن تأهيل العنصر البشري بالضوابط الفاعلة، في دعم المبادئ والقيم التي تنتظم وفق ما يُعبر عنه ضمن المنظور الإسلامي لمفهوم العقيدة. حيث مثل المذهب العسكري الإسلامي أول مذهب عالمي من حيث الشكل والمضمون. بينما جاءت معظم المذاهب العسكرية الوضعية مستمدة مبادئها وأسسها من نظريات وضعية. فكان من نتيجة ذلك التناقض بين شكلها ومضمونها، إذ ظل عنصر القيم ملازما لمفهوم العقيدة. فالعقيدة العسكرية الإسلامية كانت واضحة المعالم والأهداف، بل إن معظم القوات المسلحة العربية والإسلامية، نهلت منذ تأسيسها من هذا المبدأ. فجمعت ما بين العقيدة العسكرية في مفهومها النظري، وما بين مضامين القيم السامية. والتي بدورها لم تنفصم عن ثلاث عوامل ثابتة وهي : عقيدة قتالية أو مذهب عسكري متكامل ومتماسك، قيادة ذات درجة عالية من الكفاءة، قوات منتظمة تتميز بفضائل وقيم حربية. بل إن ما ميز الموروث التاريخي للقوات العسكرية العربية والإسلامية، والتي يمثل المغرب أنموذجا منها، هو وضوح الهدف والتكامل. وذلك بنجاحها في تحقيق مبدأ وحدة القيادة، الذي هو أساس الدولة. وأساس نجاح العمل في ميادين القتال، فضلا على كونه أساس عمل كل مجموعة قتالية. يضاف إلى ذلك مبدأ أمن القوات، ومبدأ الاحتفاظ بالقوات الاحتياطية. هذه المبادئ، وإن كانت تبدو ذات طبيعة عسكرية صرفة، فإن مجال وإمكانية نجاحها لا ينفصل عن شرط وجود القيم والتفاني بإخلاص في تحقيقها. وعليه فمبدأ القيم شرط لازم وعنصر حيوي ضمن استكمال الأهداف الكامنة وراء وضع أي عقيدة ناجحة. بل إن منطق تطور القوات العسكرية لدى مختلف الشعوب يطرح بدوره مسألة إعادة النظر في منهجية الاستفادة من المفاهيم المرتبطة بالعقيدة العسكرية لدى تلك القوات. ومتابعة التوجيهات التي تحددها المذاهب العسكرية المعاصرة، وذلك انطلاقا من منطق التلاحم بين هذه المذاهب، وبين فن الحرب بفروعه الثلاثة : الإستراتيجية والعمليات والتكتيك، على اعتبار أن المذهب العسكري للقوات المسلحة، يشكل الدستور الذي يوضح المبادئ الأساس المرشدة لتلك المؤسسة العسكرية. ويحدد لها في الآن نفسه المناهج والأساليب القتالية التي ينبغي الالتزام بها في تحقيق أهدافها المنشودة التي يقرها لها قائدها الأعلى[11]. وعليه فكل من مفهومي القيم والعقيدة العسكرية، عنصران أساسيان ضمن المسار الحضاري للدولة ومقوماتها. بحيث يمتد مداها من مرحلة المقاومة إلى مرحلة الدور الوظيفي للقوات المسلحة بالنسبة للمجتمع.
فأين تكمن تمثلات مفهومي قيم المقاومة والعقيدة العسكرية ضمن التجربة التاريخية المغربية في الفترة الممتدة ما بين 1907 و 1934 ؟
– قيم المقاومة والعقيدة العسكرية ضمن التجربة التاريخية المغربية 1907-1934
إذا كان من الثابت، كما تم توضيحه، أن هناك علاقة جدلية ما بين نشأة فعل المقاومة وما بين مفهوم القيم، فإن تمثلات تلك العلاقة ومظاهرها، قد تختلف في مضمونها من شعب إلى آخر، بالرغم من طابع التجانس أو التطابق الظاهري الذي قد يبدو حاصلا حولها.
وعليه، فتقديم قراءة في التجربة التاريخية المغربية، وبالضبط في فترة زمنية محددة 1907-1934 يحيل على مجموعة من القضايا الأساسية، حول العلاقة ما بين قيمة القيم وفعل المقاومة. والتي قد لا تخضع بدورها لنفس المعطيات، داخل التجربة التاريخية المغربية نفسها. فكما هو معلوم فقد كانت البوادر الأولى لفعل المقاومة المغربية لفترة الحماية الفرنسية قد انطلقت، منذ وقت مبكر، أي منذ بداية احتلال مناطق بالجهة الجنوبية الشرقية المغربية[12]. وهي مقاومة حملت في مضمونها بعدا قيميا، ينبني على الدفاع عن الشرف، وعدم قبول منطق الخضوع للمستعمر أو للسيطرة العسكرية للأجنبي[13]. وهي مفاهيم لم تكن ذات بعد جديد لدى قبائل الجهة الشرقية المغربية، بل إن قوة التأثير الجماعي والموقف الموحد، كقيمة إضافية أيضا، كانا حاضران بقوة على جميع المستويات، أي ينطلقان من قمة الهرم داخل القبيلة إلى أدناها اجتماعيا، وذلك وفق انكفاء وسط بنية اجتماعية مؤسسة على قيمة قوية لمفهوم الحلف، الذي يظل شعاره هو الحرص الشديد على إثبات الوجود، عن طريق استعمال “التعنيف”، أو القوة المدعمة بقيمة إضافية. ممثلة في نجاح شرط التعبئة النفسية، والتي لا تتخللها معادلة التناقض الداخلي، وذلك بحكم وجود “ميثاق التعايش السلمي” الفعلي المتوارث أبا عن جد.
وإذا ما تم الوقوف عند هذا النموذج الجمعي، من حضور مبدأ القيم لفعل المقاومة. فإن المزيد من التمعن والتفكير العميق في بنيتها الفلسفية، يدفع إلى التساؤل حول طبيعة حضور الفعل القيمي من زاوية أخرى، مبعثها النجاح في تحقيق المجابهة المسلحة. وذلك بناء على صعود نجم زعامات تستند على مبدأ الدعوة، كمقوم فعلي لتمثل وحضور عنصر القيم في عمل المقاومة. والمقصود هنا تجربة كل من الشريف أمزيان وأحمد الهيبة وموحى أوحمو الزياني، فضلا عن تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي. وهي نماذج ليس المقصود منها حصر فعل المقاومة المغربية عندها، حيث تمتد أيضا إلى نماذج أخرى لا تقل أهمية عنها، بل لمجرد تقديم قراءة نوعية ذات منزع قيمي لفعل المقاومة المغربية ضمن تجربتها الخاصة.
فكيف يمكن قراءة فعل المقاومة لدى هؤلاء انطلاقا من استحضار بنية القيم في التحليل والرصد ؟
تكتسي تجربة الشريف أمزيان، في مواجهة الجيش الإسباني دلالة خاصة على مستوى القيم. فزعيم المقاومة يرتبط في نسبه “بقيمة الشرفاء”، وهي القيمة التي تمنح صاحبها أحقية اتخاذ المبادرة وجمع الشمل وتوحيد الصفوف. وهذا المبدأ هو مكون أساس لنجاح فعل عسكري. ولو في طابعه الاستعجالي أو الظرفي، بحيث وُفق الشريف أمزيان في جمع رؤساء القبائل يوم 5 يوليو بسوق مزوجة، وإعلانهم الاستعداد لقتال الجيش الإسباني، بعد التجاوزات التي قام بها هذا الأخير في حق قبيلة كبدانة. فمبعث الفعل العسكري حمل معه بعدا قيميا، حصل حوله الاتفاق داخل الجماعة، وهو ما يمثل شرطا محوريا من شروط التصدي للخطر الخارجي، الذي بإمكانه خلخلة بنية الأمن التي يعيشها المجتمع[14].
إن نسقية المبادرة والفعل، لا يمكن فصلها عن مفهوم التدبير الرزين “لقيمة القوة الجماعية” لدى القبائل تجاه المحتل، بصيغ تستحضر قيمة الحرية أولا. ثم قيمة عدم قبول فعل الاعتداء أو تجاوز مقومات التعايش ما بين الجارين على مستوى تحقيق أمن البلاد والعباد.
هناك مدخل قيمي ثاني نجده حاضرا ضمن قراءة تجربة المقاومة المغربية للمحتل، ويتمثل في حركة أحمد الهيبة. والذي نجد فيه بلورة للمعنى الحقيقي لتسمية “الزعيم بالمفهوم الكاريزماتي”[15]، أي هبة الله[16]، إلا أن هذه القيمة سوف تتطور إلى بعد قيمي، أكثر دلالة وهو الهيبة. من فعل هاب يتهيب، فصلة التسمية برمز الحركة، أي الهيبة تحمل في مضمونها شرطا مستهدفا من شروط قيمة الفضيلة والأحقية بالزعامة. على شاكلة مقاربة لما مثل لدى سابقه الشريف أمزيان. غير أن قيمة البعد الروحي تأخذ لدى الهيبة كزعيم استقطابا أوسع، حيث جمع ما بين شروط القيم الذاتية، ومنطق قوة استيحاء المكان، أي قيادته للزاوية بالسمارة. فضلا عن كون المكان، أي الزاوية، يحمل بعدا قيميا مشتركا مع قيادات روحية أخرى، متمثلة في الشيخ ماء العينين، وكلاهما منفذ لتحقيق قيمة تولي الجهاد ( لقب بأمير المجاهدين في 3 مايو 1912) .
لقد تمكن أحمد الهيبة بفضل هذه الشروط القيمية، من تحقيق نجاحات عسكرية على مستوى الميدان، فتحت له المجال لمحاولة الانتقال إلى مرحلة أعمق من حيث الدلالة. تتمثل في الرغبة في الحصول على عقيدة قتالية ضمن جيش نظامي، غير أن مجمل الأخطاء التي حددها عبد الله العروي في تتبعه لتجربة أحمد الهيبة، كان سببا مباشرا في وقوع التناقض، ما بين خصوصية القيم التي شكلت دعامة انتشار حركته، وما بين حقيقة الفعل العسكري على مستوى الميدان في معركة حاسمة، هي معركة سيدي بوعثمان في شتنبر سنة 1912. فكانت هذه الأخيرة إيذانا بانتهاء قوة القيم. وسيطرة فكرة الجهاد والإيمان بالخوارق أمام العمل العسكري المنظم. وبالتالي شكلت منعطف التراجع وفشل الحركة[17].
من اللافت للنظر أن تجربة موحا أوحمو الزياني لم تنح في بعدها القيمي نفس المنحى الذي سارت عليه تجربتي كل من الشريف أمزيان وأحمد الهيبة. بل نجد أن سندها القيمي أخذ بعده من مستوى تطبيقي ضمن فترة المواجهة العسكرية المباشرة، في معركة لهري سنة 1914. فالأسس والمبادئ الإيجابية التي تم التوافق حولها اجتماعيا بهدف تحقيق الغلبة على المستعمر الفرنسي، كان منطق نجاحها مبني على نجاح موحى أوحمو الزياني ،كزعيم في هزم الجيش الفرنسي وطرده. وذلك بفضل انتصار قيم الشجاعة والثبات والإيمان بالقضية العادلة. فضلا عن توفر خطة محكمة وعقيدة عسكرية ثابتة. مبنية على حسن تقدير البنية الجغرافية والموقع العسكري للمواجهة، وطبيعة القوات ونسبة الاحتياط. وهو مثال حي لمدى قيمة تماسك الشرط القيمي بالعقيدة العسكرية، وذلك في ظل التعرض إلى الاعتداء والتهديد من قبل قوة عسكرية خارجية. فهل سوف تحضر هذه العناصر ضمن تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي بعينها ؟ أم لهذه الأخيرة منظومة قيمية أخرى، تزيد من غنى توفر المقاومة المغربية على قيم متنوعة تتبلور في تجارب مختلفة على مستوى الميدان ؟
إذا كانت مفاهيم القيم لا ترتبط في الواقع بمنظور فكري أحادي، إذ تتجاوز إطار الفردية نحو المفهوم الفكري الكوني. وذلك وفق بناء فكري تعارضي مُؤسس على مبدأ اختلاف النظرة إلى القيم، والمتفق حولها ضمن كل سياق على حدى. فإن الوقوف عند تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي، يحيل على السياق العالمي للتجربة في توافق مع ما ذكره محمد زنيبر قائلا : «…، لا يمكن للمؤرخ أن يدرك أهمية الثورة الريفية ومغزى العمل الذي قام به محمد بن عبد الكريم، إذا لم يضع نفسه، بادئ ذي بدء، في سياق التاريخ العالمي »[18].
وعليه فمفهوم العالمية هنا ليس من منظور الحدث التاريخي أساسا، بل هو لصيق بالبعد القيمي ضمن فلسفة القيم. فضلا عن العلاقة الجدلية بين فعل المقاومة والعقيدة العسكرية، في تحقيق نجاح مبادئ ذات أصل مغربي يجب الاعتراف بها. متمثلة في ابتكار أسس الحرب الشعبية، أو ما عبر عنه الجنرال بوفر بالحرب الثورية (La Guerre Révolutionnaire)[19].
يتأسس منطق القيم في تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي، بناء على طبيعة الدوافع التي كانت وراء مواجهة الجيش الإسباني. إذ بمجرد رصد الأحداث ومجرياتها خلال المرحلة، يمكن الكشف عن الكثير منها[20]. فمحمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن معزولا في عمله عن رغبات القبائل الريفية المغربية، التي بدأت تشعر بفقدان رمز استقلالها وشرفها وعزة نفسها. فأثبتت رفضها الجماعي للنظام الاستعماري، بشتى أشكاله ضمن قيمة تضامنية قوية، تبلورت خطتها العملية والعسكرية في نجاح محمد بن عبد الكريم، بفضل توفره على قيمة علمية مضافة لعقيدة عسكرية مميزة، كان هوشي مينه أبرز من أشاد بها. وهي الخطة التي تعممت في ما بعد في كل حروب التحرير[21] .
فقيم مبادئ الحرب الثورية في تجربة المقاومة لدى محمد بن عبد الكريم الخطابي، تمثلت في نجاح هذا الأخير في استغلال الأبعاد السياسية والنفسية للقبائل وفق “جغرافية اجتماعية” محددة، مع العمل على نقلها في صورة عقيدة عسكرية من الشكل التقليدي للحرب البدائية إلى الشكل العصري. فضلا عن توفره على بعد نظر، يحمل الرغبة في تحقيق هدف مزدوج، يتمثل في تحقيق السيطرة المطلقة وإجبار الخصم على الاستسلام.
فإذا كان محمد زنيبر يرى في كون نجاح تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي أساسها تحقيق عنصر المفاجأة في الثورة، كرد فعل جماعي لشعب بكامله، في الوقت الذي باتت فيه قوى الاستعمار تعتقد أنها أحرزت نتائج ومكاسب نهائية لا تراجع فيها. فإن تحليل ذلك ضمن مفهوم العقيدة العسكرية للحرب الثورية، يتمثل في كون محمد بن عبد الكريم أحسن توظيف الحقل الزمني، إذ من مميزات الحرب الثورية اندلاعها أساسا لحظة اندلاع انتفاضات السكان، وفق تقدير دقيق للخط السياسي المتبع، والخطة الإستراتيجية المناسبة[22].
تلك مجمل المعطيات التي ميزت تجربة مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، والتي جعلتها تنتقل وفق مفاهيمها وتفوقها (معركة أنوال 1921)، إلى إطار عالمي جمع ما بين قيمة الإبداع العسكري، وقيمة التنفيذ وقيمة الحفاظ على المكتسبات ولو لحيز زمني ضيق. لم تنكسر في واقع الأمر، سوى أمام قيم إنسانية آمن بها زعيم الثورة الريفية، حيث جاء منطق استسلامه موازيا لوعيه بفقدان منطق النصر أمام قوة العدو، ومن ثمة العمل وفق إطار قيمي أبعد، في السعي إلى عدم إهدار دماء المدنيين وغير المسلحين في حرب غير متكافئة تجاه الحركة الاستعمارية بمفهومها الشامل. فكان ذلك بمثابة قيمة إضافية لهذه الثورة، ذات الطابع المغربي المميز ضمن قاموس “قيم الحرب الفاضلة”.
تلك أبرز المفاهيم المرتبطة بالتجربة المغربية في مجال فعل المقاومة، والتي تحيل بشكل ضمني، على تساؤلات نوعية، حول مدى تمثلها في فعل الحركة الوطنية، بل وامتدادها كشرط لازم في الأحقية السياسية لبعض الزعامات ضمن أحزاب مغربية معاصرة، لم تخضع في الواقع لنفس المنطق القيمي، ولا لنفس الاعتبارات النضالية.
[1] – هذا المفهوم لا يبتعد عن المحددات العامة التي كانت وراء نشأة فلسفة التاريخ، حول هذه المحددات انظر مقدمة كتاب، الملاح، يحيى هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، دراسة تحليلية في فلسفة التاريخ التأملية والنقدية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2007، صص4-5.
[2] – يستحضر حسن حنفي العديد من الأمثلة في هذا الباب، من قبيل الثورة في حياة العرب، والتي شملت حركة المستضعفين والفقراء والعبيد ضد المستكبرين والأغنياء والسادة بالدعوة إلى الحرية والمساواة، فضلا عن اتجاهات المعارضة الناشئة، منذ مرحلة الأمويين عندما سيطروا على الحكم وما أفرزوه من تصورات متعالية للإلوهية، أثارت ردود فعل عند المفكرين المسلمين، ومن أبرزهم ابن رشد، والحلاج وغيرهما. كما تطرق إلى المفاهيم الدينية الدنيوية والأخروية وعلاقتها بالمقاومة والصراع القائم ما بين أيديولوجية السلطة وقوانينها، وبين (حال الأمة) باعتبار أن المقاومة تقوم على تحليل عناصر هذا الحال كمحددات لتبعيتها أو استقلالها، قهرها أو حريتها. انظر التعليق الخاص بالندوة ضمن الموقع:
http://www.alfikralarabi.org/modules. 18/03/2008
[3] – قد يتخذ مفهوم الحرية بعدا سلبيا آخر يحمل في مضمونه دلالات أدرجها البعض في تفسيرات فلاسفة السياسة الكلاسيكيون في انجلترا، انظر، برلين ايزايا، حدود الحرية، دار الساقي، بيروت، لبنان، 1995، ص.13.
[4] – يوضح أرسطو الأبعاد الحقيقية لفعل السياسية والسياسيين، فيستنكر منطق السلطة الاستبدادية، ويعتبر أن حياة الحر خير من حياة السيد المستبد، حول هذا التصور، انظر، أرسطو، في السياسة، الطبعة الثانية، المكتبة الشرقية، بيروت، لبنان، 1980،ص. 360، يدخل ضمن هذا النوع من المقاومة، مقاومة الزعيم الهندي غاندي تجاه السياسة الاستعمارية البريطانية.
[5] – حول هذا المفهوم أنظر الورقة التي قدمها هشام عمر النور بعنوان نظرية التحرير عند هابرماس ، حيث يقف عند تجاوز هابرماس لنظرية فيبر الاجتماعية والتي عانى فيها الإنسان من فقدان الحرية، على اعتبار أن فقدان الحرية عند فيبر هو موقف إلغائي، انظر :
التعليق الخاص بالندوة ضمن الموقع: http://www.alfikralarabi.org/modules. 18/03/2008
[6] – سون زي، سون بين، فن الحرب، الأولى للنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، ص.22.
[7] – تختلف الفترات الزمنية التي ترتبط بظهور الوعي الوطني بأهمية المؤسسة العسكرية داخل المجتمعات، حيث ترتبط بطبعة التحولات الفكرية التي تشمل التوجهات العامة للدولة، والتي بدورها لا تنفصم عن مفهوم القيم المرتبطة بفعل المقاومة التحررية أساسا، انظر على سبيل المثال الوضع الفرنسي والذي قد يختلف في عموميته مع تجارب دول أخرى :
Rousseau, Frédéric, Service militaire au XIX° siècle, de la résistance à l’obéissance, CNRS, Montpellier, 1998, p.156.
[8] – عبد الله محمد حسين، دراسات في التاريخ العسكري، المنارة، بيروت، 2000، ص. 136.
[9] – المعجم المختصر، هيئة التدريب، الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1963، ص.176، عن عبد الله محمد حسين، دراسات في التاريخ العسكري، المنارة، بيروت، 2000، ص. 136.
[10] – عبد الله محمد حسين، دراسات في التاريخ العسكري…، المرجع السابق، ص. 140.
[11] – بسام العسلي، “المذهب العسكري الإسلامي والفضائل الحربية للمجاهد”، مجلة كلية الملك خالد العسكرية، ع.14، 1046هـ، صص.18-22.
[12] – المقصود بذلك المقاومة التي تمت في الجهة الجنوبية الشرقية بين سنتي 1900 و1908، أنظر بعض المعلومات عنها عند احساين عبد الحميد، ” “المقاومة المسلحة في الجهة الجنوبية الشرقية بين سنتي 1900 و 1908″، ندوة المقاومة المسلحة المغربية 1900-1934، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة النجاح الجديدة، 1993، صص. 179-186.
[13] – Azan Paul, La Frontière Algéro -Marocains au début de 1907, Ed. Tonnere, 1907 et Bernard Augustin, Les Confins Algéro-Marocains, Ed. Emile Larose, Paris, 1911, 420p.
[14] – قدم بن عزوز حكيم معطيات مهمة حول ظروف الصراع ما بين الشريف أمزيان وإسبانيا، والناتج أساسا عن رغبة الحكومة الإسبانية في استغلال مناجم المنطقة وبناء خط سكة حديدية لذلك وتوغل الجيش الإسباني بالمنطقة، حيث استعمل القوة والعنف لتحقيق أهدافه، فكان من نتائج الصراع تكبد القوات الإسبانية خسائر عديدة على مستوى الميدان، انظر ابن عزوز حكيم، محمد، الشريف أمزيان: “المقاومة المسلحة ضد الغزو الإسباني”، مذكرات من التراث المغربي، ع.5، التامرا، مدريد، 1985، صص.50-59.
[15] – ليس المقصود من تقديم قراءات في تجربة المقاومة لدى بعض الزعامات هو تفسير التاريخ بناءا على مفهوم وجداني، بل القصد هو ربط المفهوم بطابعه الفلسفي، ومحاولة فهم طبيعة التحول المجتمعي وتمحور العمل الجهادي ضمن بوثقة أسماء معينة من دون إغفال طبيعة الفعل لدى بقية عناصر المجتمع، خاصة تلك الفئات المهمشة، والتي غالبا ما يكون دورها محوريا وفاعلا ضمن الأحداث التاريخية، فاستحضار قيمة الزعيم يكشف ضمنيا عن توظيف غير معقلن للتدوين التاريخي عبر مستوياته المختلفة.
[16] – عن مقاومة أحمد الهيبة، أنظر، العروي عبد الله، “أحمد الهيبة”، مذكرات من التراث المغربي، ع.5، التامرا، مدريد، 1985، صص.110-127.
[17] – يعيب عبد الله العروي على مربي ربو في تنظيم الجيش على مستوى الجيش النظامي، انظر ، عبد الله العروي، “أحمد الهيبة…”، المرجع السابق، صص116-117.
[18] – زنيبر محمد، حرب الريف: “محمد بن عبد الكريم”، مذكرات من التراث المغربي، ع.5، التامرا، مدريد، 1985، صص.161-191.
[19] – انظر الفصل الخاص بتحليل الحرب الثورية عند الجنرال بوفر، الحرب الثورية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1988، ص.63.
[20] – كثيرة هي الدراسات التي اهتمت برصد تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي، لكن لمعرفة الخطوط العريضة يمكن العودة إلى زنيبر محمد، حرب الريف…، المرجع السابق، ص. 176.
[21] – زنيبر محمد، “حرب الريف…”، المرجع السابق، ص.164.
[22] – الجنرال بوفر، الحرب الثورية…، المرجع السابق، ص. 68.