كان السلطان محمد الثالث، بمجرد تسوية مسألة الأسرى مع إسبانيا على أساسي تبادلي، قد أبرم مع الجارة الشمالية ، في 1767 معاهدة للسلم والتجارة، كانت هي الأساس لعلاقات متكافئة للبلدين، على ضوء الرؤية البعيدة المدى للسلطان المغربي. وتم التمهيد لها بهدوء وانسجام، وذلك على يد سفيره أحمد الغزال، في 1766، الذي حققت مهمته نجاحا كاملا. وكان سيدي محمد بن عبد الله قد عهد إليه بأن يحصي عدد الأسرى المغاربة في إسبانيا، وأن يوزع عليهم الهبة التي خصهم بها، والتمهيد مع السلطات الإسبانية لإعادتهم إلي بلدهم.
وفي ذلك الجو طلب كارلوس الثالث من صديقه محمد الثالث، أن يتدخل لدي داي الجزائر، الوالي من قبل العثمانيين، قصد أن تتم مفاداة للأسرى على غرار ما تم مع المغرب. وتم بالفعل التوصل إلي ذلك ولكن بشيء من الصعوبة. إذ كاتب سيدي محمد بن عبد الله حاكم الجزائر مرة أولى وثانية وثالثة كما جاء في “إتحاف الناس ” لابن زيدان. على أساس رجل برجل. وفجأة برزت مشكلة، إذ فهم الجزائريون أن إفراجهم عن الأسرى الإسبانيين كان سيتم في مقابل تعويض مالي.
ويقول أكنسوس في ” الجيش العرمرم” (ص. 231 ج 1) إن التسوية كانت تنص على أن تكون المفاداة على أساس الرئيس بالرئيس، والبيلوط بالبيلوط، واليكانجي بالكانجي، والجندي بالجندي، والبحري بالبحري. ومن فضل عنه فعن إفراد البحرية خمسمائة ريال، والرئيس بألف ريال.
واستاء كارلوس الثالث من تصرف الجزائريين، حينما اشترطوا المال، واضطر إلي دفع التعويض كما طلبوا، وحرص على أن تتم المفاداة بواسطة ملك المغرب الذي كلف بهذه المهمة سفيره الغزال منفذ الصفقة مع إسبانيا. ويذكر أكنسوس أن عدد الجزائريين الذي وقع افتكاكهم حينئذ كان 1600، خلصهم المغرب من الأسر، ليس بدافع معين خاص به، وإنما في نطاق رؤية إنسانية واسعة المدى للملك المذكور.
وبعد ذلك بنحو عشرين عاما، وقعت مشكلة أكثر تعقيدا، حينما اختطف القراصنة الجزائريون أميرة إسبانية كانت في طريقها إلي نابولي. وطلب كارلوس الثالث مرة أخرى وساطة صديقه محمد الثالث، موضحا أنه مستعد لأداء الفدية مهما كانت.
وقام السلطان المغربي بالوساطة لدى حكام الجزائر ولكن هؤلاء رفضوا التجاوب مع العرض الذي قدم إليهم.
فما كان من سيدي محمد بن عبد الله إلا أن كتب رسالة احتجاج إلي السلطان العثماني الذي قام بدوره بتوبيخ حكام الجزائر، لأنهم ردوا وساطة ملك المغرب، وأمرهم بأن يحلوا المسألة في أسرع وقت، رعاية لملك المغرب الذي بذل جهودا سياسية ومالية لها اعتبار، طيلة سنوات عديدة، من أجل افتكاك الأسري المسلمين من يد الممالك المسيحية. ووقع الإفراج عن الأميرة وسلمت لملك المغرب.
وبعث السلطان سفيره ليستلم الأميرة الرهينة. وفي حتام الصفقة سأل السفير المذكور داي الجازائر عن تفسير الممطالة التي وقعت في حين أن العرض الأول كان مشفوعا بدفع مقابل مادي ” مهم ” حسب قول الملك الإسباني.
وكانت المفاجأة عظيمة حينما قال حاكم الجزائر لسفير المغرب إنه ” مجرد حاكم ” و أما القرار بشأن الصفقة فهو بيد قادة الجيش، وأن هؤلاء كانوا يرفضون الفدية.
وهكذا يمكن القول إن هذه الحكاية من أعماق التاريخ، أي قرابة ثلاثة قرون ونيف، تنطق بما يلي:
– أن القرصنة كانت حربا اقتصادية تشرف عليها الدول. ولكنها كانت أيضا بمثابة اقتصاد ريع تتعيش منه الفئات الحاكمة. وكان من شأنها أن تخلق ظروف مزايدة أو صراعا على النفوذ فيما بين أطراف اتخاذ القرار. وقد يكون هذا هو سبب تعثر الصفقة بشأن الأميرة الإسبانية.
– أن القرصنة مثل الإرهاب اليوم كانت تتم بكيفية عمياء لا تبالي بالآلام الإنسانية التي تنتج عنها للمتضررين، في حين أحجمت الدول عن التدخل للحد من الأضرار أو لجبرها إن أمكن. وهذا ما حمل السلطان محمد الثالث على بذل جهود متوالية لمحاربة الآثار السلبية للقرصنة. حيث بذل مساعي مع الدول الأوربية قصد التوصل إلىى اتفاقات تحقق أهدافا إنسانية على أساس التعامل بالمثل.
– منصب الداي يتم الوصول إليه عبر ميكانيزمات متواطأ عليها، تبدأ من كون المنصب يشترى وتنتهي بحصول الداي على فرمان التعيين. وقد روى صالدانيا في كتابه عن بلاط أحمد المنصور الذي عاش فيه 18 عاما أن أحد أبناء المنصور ساعد بالمال أحد خدام الباب العالي على شراء المنصب. وابتداء من هذه الصفقة تتوالى الصفقات التي تصدر بشأنها القرارات. ولعل الحسابات التي اكتنفت نازلة الأميرة الإسبانية لم تكن سياسية محض.
– ومن هنا نفهم كيف أن الداي يعتبر نفسه ” مجرد رئيس “، لا يستطيع أن يفرض على القادة العسكريين قرارا سياسيا حتى ولو أمر به الخليفة العثماني. وهي تركيبة لا تسود إلا في أوضاع مرتبكة حيث كما قال العروي كل الدول تملك جيشا أما الجزائر فإن الجيش هو الذي يملك الدولة.
كانت القرصنة المقترنة دائما باستعباد البشر، قد أصبحت ممارسة عادية في البحار. وتدلنا حياة ومؤلفات ميغيغل سيرفانطيس على المظاهر الفاجعة لتلك الممارسة. فقد كانت تتم مهاجمة المراكب، بقصد تملك ما علي متنها من مواد وسلع، ثم التصرف في مصائر ركابها، الذين كانوا يستخدمون في البداية كيد عاملة، في انتظار المقايضة عليهم و بيعهم، والحصول على مبالغ هامة يتم تحديدها عبر مفاوضات شاقة، أحيانا فيما بين الدول. ويطبق حينئذ ما يسري على أسرى الحرب، الذين يمثلون مصدرا للحصول على فوائد مالية.
وكان القضاء على تلك الحالة التي تحولت إلي إرهاب دولة، كما نقول اليوم، قد تطلب مجهودات جمة. وخلال قرون تم التعامل مع تلك الحالة بالقوة وحدها. غير أنه بمبادرة مغريية بدأ مسلسل مبتكر وجذاب، كان يرمي إلي تصفية القرصنة والاسترقاق، عبر عقلنة العلاقات الدولية.
ففي رسالة من محمد الثالث إلي كارلوس الثالث، بتاريخ 14 أبريل 1765، ناشد الملك المغربي نظيره في البلد المجاور، التعامل مع المسألة على نحو مغاير. وهذه الرسالة موجودة بنصها العربي في “الإتحاف ” ( ص. 308 ج.3)، وتوجد بالإسبانية ترجمة فقرتها الرئيسية في كتاب ” المغرب والعالم الخارجي في النصف الثاني من القرن 18 ” (ص. 129) لرامون لوريدو، وقد استقاها من الأرشيف التاريخي الوطني بمدريد.
ويعتبر إبن زيدان أن مسألة الأسرى كانت هي السبب في نشأة الاتصال المباشر فيما بين سيدي محمد بن عبد الله وكارلوس الثالث، وهي موضوع الرسالة المشار إليها. وهي تتعرض لموضوعين الأول أن البلدين معنيان بتبادل الأسرى الذين عند كل منهما، والثاني هو معاملة فئة الفقهاء منهم. وقال الملك المغربي إنه توصل بعدة شكاوى من الأسرى المغاربة الذين كانوا في إسبانيا، تشير إلي أن أفرادا من هذه الفئة يكلفون بأعمال شاقة ومهينة، علي عكس ما يتم في المغرب، حيث يتم التعامل باحترام مع رجال الدين من الأسرى.
وجاء في الرسالة: ” إننا في ديننا لا يسعنا إهمال الأسارى وإبقاؤهم في قيد الأسر، ولا حجة للتغافل عنهم ممن ولاه الله التصرف والأمر، وفيما نظن أن في دينكم لا يسوغ لكم ترك أساراكم في الأسر مع الإمكان والاستطاعة، ووجود ما يفتدون به من أسارى المسلمين واتساع البضاعة… ومسألة هي من أعظم هذا كله هي إغفالكم عن البحث في أسارى المسلمين حتى يتبين لكم العالم بعلمه والجاهل بجهله، ثم تجعلون لأهل العلم حرمة ومكانة، وعزة وصيانة، بحيث تجعلون لهم علامة يميزون بها عن الغير، حتى لا يقع أحد بشتم و لا بهضم حرمة في مقامهم والسير، مثل ما نفعله نحن مع الفرايلية إن قدر الله بأسرهم، لا نكلفهم بخدمة ولا نخفر لهم ذمة. فعلام تحترمون الرؤساء من الأسارى و لاتعبأون بحامل كتاب الله، على أنهم الأفضل عند الله ” .
وكان العاهل المغربي قد أفضى بعرض قريب من ذلك يرمي إلي مفاداة الأسرى أبلغه إلي الجمهورية الإيطالية بالبندقية. وبالرجوع إلي سجل الأحداث نجد أن المغرب كان بصدد حملة بهذا الصدد. وكان محمد الثالث في تلك الفترة قد تولى التفاوض مع عدة حكومات أوروبية بشأن تحرير العبيد المغاربة الذين كانوا في قبضة المسيحيين. وقال ر. لوريدو (ص. 129) إن سيدي محمد بن عبد الله، لم يكن ينتظر أن يطلب منه ذلك الأوروبيون، بل كان هو المبادر مباشرة.
وجاء رد كارلوس الثالث على العرض المغربي بتاريخ 31 غشت 1765. وفيما يتعلق باقتراح المفاداة، قال العاهل الإسباني: ” لا يوجد شيء أعدل من التعامل بالمثل. وإني لعازم على أن أطبق ذلك فورا، بأن أوجه لك كل من هو من رعاياك في إسبانيا. وقد أصدرت أوامري بذلك “.
ويدقق ر. لوريدو بأن ما يتعلق بلباس مميز لطبقة العلماء كان من الصعب قبوله لأن الوزير الأول ماركيس دي غريمالدي اعتذر بأن طلبا مماثلا قد سبق رفضه بالنسبة للبروتستانيين الإنكليز والهولنديين.
وهكذا فبالعرض الذي تقدم به ملك المغرب، وبرد الفعل الفوري لملك إسبانيا، قد فتح الطريق لكي يوجد حل حاسم لحالة تراجيدية كانت تثقل العلاقات الدولية، خاصة فيما بين الأوروبيين والبلدان الإسلامية. وفي هذا السياق المعقد تولى المغرب الريادة، بأن التزم بالتدخل لدى بلدان إسلامية أخرى، لسلوك نفس الطريق، وبذلك تم تكسير حاجز سيكولوجي كان يحول دون معالجة تلك المسألة بطرقة عقلانية.
قام محمد الثالث بمساعي عديدة من أجل التوصل إلي سلسلة من الاتفاقات مع الدول الأوربية كانت ترمي إلي إقرار السلم في البحر. فتوصل في 1763 إلي اتفاق مع السويد. وفي 1766 أوفد سفيرين إلي كل من إسبانيا وفرنسا لنفس الغرض، وتوصل إلي اتفاقات في 1767 مع الدينامارك وفرنسا وإسبانيا. وفي 1774 مع البرتغال وفي 1777 بعث سفيرا إلي باريس لكي يبلغ ممثلي الدول هناك عرضا بتعميم إلغاء العبودية. وقام سنة 1781 بمساع لدى مالطة ونابولي لافتكاك أسرى مسلمين تابعين لبلدان أخرى.
وكانت البنود المشتركة في الاتفاقات التي تم التوصل إليها، تدور حول تبادل عدم الاعتداء في البحر، والاتفاق على بعض الترتيبات المنظمة للتحرك في البحر، ومنع أسر الأشخاص المسنين والأطفال، و تلافي أسر السفن الناقلة لمواد غذائية، وترتيبات أخرى ذات طابع إنساني، من قبيل ألا تتعدى مدة الأسر سنة واحدة.
أي أن سياسة محمد الثالث بشأن السلم في البحر، كانت نابعة من رؤية سياسية. وقد وصفه كانوفاص ديل كاستيو، في كتابه ” هوامش على تاريخ المغرب ” (ص. 179) بأنه “كان ملكا جديرا بمنصبه بكل الاعتبارات”.
29 أبريل 2014