الفقه والتاريخ بسجلماسة

صدر عن منشورات الزمن سلسلة شرفات رقم65 كتاب من الحجم المتوسط في 192 صفحة بعنوان “الفقه والتاريخ بسجلماسة: مباحث في تفاعلات المعاش والاقتصاد والثقافة من خلال فتاوى ابن هلال السجلماسي“، وهو كتاب جماعي، أفرده أصحابه للتعبير عن التوجه الجديد في الكتابة التاريخية، توجه يعبر عن قيمة التأليف الجماعي لما له من أهمية في التمحيص والتحاور والتثقيف بين الباحثين في موضوع محدد، وعن قيمة كتب النوازل لما لها من قيمة في التعبير عن العلاقة بين الفقه والتاريخ، ناهيك عن قيمة المضمون لما له من راهنية تدعو إلى لزوم البحث في مناطق لها من الرصيد التاريخي ما يدعو إلى لزوم بيانه وإيضاحه.

وهكذا وكما قال الأستاذ الدكتور حسن حافظي علوي مُصدِّر الكتاب، أن المؤلف هو عبارة عن ((أبحاث رصينة خطتها أقلام نخبة متميزة ممن فرقتهم ظروف العمل، لكن جمعتهم أعمال جماعية فيها من الجدية والانسجام ما يبرهن عن سداد في الرأي ووضوح في الرؤية وتشبع بثقافة الإنصات واستعداد للأخذ والعطاء. ومما يدل على وجاهة هذا التوجه الذي اختارته هذه الجماعة العلمية للتعبير عن استحكام الصحبة بين أفرادها ما تتميز به مباحث هذا الكتاب من تكامل وتلاقح في طرائق التحليل، وثراء وتناغم في أساليب وأنماط التعبير)).

((أما التاريخ في هذا المؤلَّف فيتحدر من الفقه ويتولد منه لتطفح عناوين الكتاب ومباحثه وفقراته بعبق فوّاح يصدر عن تأمل عميق وفحص دقيق في نصوص لا تبوح بأسرارها إلا لعشاقها))، و((لئن كانت نوازل ابن هلال هي منطلق وأساس هذه الدراسات الوازنة، كما هو واضح في شرط هذا الكتاب انطلاقا من عنوانه، فإن القراءة المنهجية التي خصصت لدراسة النوازل وأهميتها في إنتاج المعرفة التاريخية قد أولت عناية لافتة لمجموع الأطاريح والأبحاث المتعلقة بالنوازل والتاريخ، وأمدت القارئ بمفاتيح الولوج إلى مواطن القوة ومكامن الضعف في هذا الرصيد، مع توجيهات كفيلة بتأهيله لأخذ فكرة ضافية عن الحصيلة. وقد أفلحت هذه الدراسة حيث أخفق غيرها في التفريق بين المسائل والأجوبة وبين النوازل والفتاوى، وفي التشديد على الضوابط المنهجية الواجب اعتمادها في قراءة المتن النوازلي تفاديا للانبهار بما قد يتفرد به هذا المتن من قضايا تاريخية، والتماهي معها، والسقوط بالتالي في شَرَك استخلاص السَّنَن الاجتماعية من هذه القضايا على ضرب من التمحل؛ بالإضافة إلى التنبيه على عدم المفاضلة بين السؤال والجواب في النازلة رغم تشبع الأول بالتاريخ والثاني بالفقه وبمصادر الفتوى المتحدرة من أقوال الإمام مالك وعمل أهل المدينة واجتهادات فحول الفقهاء في المدارس المالكية المشهورة بكل من الحجاز والعراق ومصر وبلاد المغرب والأندلس)).

((هذا وتبرز أهمية هذا الكتاب من خلال القضايا التاريخية التي استنبطها أصحابها من نوازل ابن هلال، وفي مقدمتها التحولات المهمة التي عرفها الاقتصاد السجلماسي في منعطف القرن التاسع للهجرة/الخامس عشر للميلاد، حيث انتقل من اقتصاد تجاري منفتح على آفاق بعيدة إلى اقتصاد زراعي سماته الكفاف والعفاف، بل الخصاص والقلة. وهي سمات تشي بتبدل أحوال منطقة أفلتت للتو من زمام الريادة في مجال التجارة البعيدة المدى، فتوارى بريقها وخَفَت وهجها أسوة بمختلف مناطق البلاد نتيجة اختلال ميزان القوى بين الضفة الشمالية والضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في مشارف العصور الحديثة)).

((وإلى جانب اهتمامهم بالنشاط التجاري، اعتنى المؤلفون في كتابهم هذا بالحرف والصنائع وبالمسألة العقارية في علاقتها بتفتيت مساحة الأرض الزراعية وما ينجم عنه من تراجع في كمية الإنتاج. كما أولوا اهتماما خاصا لقضايا المجتمع السجلماسي، وما اشتهر به من تراتبية صارمة، وما عاناه آنئذ جراء سطوة الأعراب واستشراء الحرابة وتوالي الأمراض والأوبئة. كما رصدوا العادات والتقاليد في الأفراح والمسرات والأتراح والملمات، وتوسعوا في التداعيات السياسية للاحتفال بعيد المولد النبوي في علاقتها بتبني المخزن لقضية الشرف، وبسطوا مواضيع أخرى كثيرة لا تقل أهمية عما تم الإلماع إليه)).

وهكذا يمكن ((الإشادة بالمستوى الرفيع لمختلف الدراسات التي يحفل بها هذا الكتاب، وما تميز به من منهج حواري متسائل، ومن نزوع نحو تجديد الخطاب التاريخي بتطويع اللغة الفقهية، ومن سلامة في التعبير وإحكام في التبويب، بالإضافة إلى ما أبان عنه مؤلفوه من براعة فائقة في الكشف عن العلاقة الخفية بين الفقه والتاريخ)).